الجمعة 29 نوفمبر 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
الشباب.. بين السحابة الزرقاء والأفكار الصفراء!

الشباب.. بين السحابة الزرقاء والأفكار الصفراء!

فى الشوارع الخلفية لبلدان العالم الثالث بالتحديد؛ تحدُث كل الموبقات التى تمارسها البشرية منذ بدء الخليقة ـ كنتاج طبيعى لما تركه الاستعمار من بصماتٍ سلبية فى و على  طبائعنا وأجسادنا وسياساتنا من آفات الفقر والجهل والمرض ـ بداية من ممارسة أقدم مهنة فى التاريخ.. إلى الخنوع والاستسلام والتعايش تحت ظلال السحابة الزرقاء الصاعدة من (بوتقة) صَهْر المخدرات: الطبيعية والمخلَّقة؛ مرورًا بحويصلات شجيرات الرئة وشعيرات «أنوف ونغاشيش» الشباب المساطيل المغيَّبين فكريًا وسياسيًا وعقائديًا؛ وهم الذين يفترشون ـ مجازًا ـ أرصفة وأركان ودهاليز تلك الشوارع الخلفية، لتتعطل تروس ماكينة الإنتاج البشرى ـ العضلى والذهنى عن الدوران الإيجابى لصالح المجتمع والدولة! وجُل اعتقادى أنه ليس بخافٍ على دارسى تاريخ الاستعمار ـ القديم والحديث ـ فى كل بقاع العالم؛ ما جرى بشأن حروب الأفيون التى اندلعت بين «امبراطورية الصين» وبين «المملكة المتحدة/بريطانيا»ــ وهى الإمبراطورية الاستعمارية التى لاتغيب عنها الشمس ـ وقتئذٍ ـ  لكثرة مستعمراتها فى جنبات العالم الثالث، وانضمت إليها فرنسا فى الموجة الثانية من تلك الحروب التى اندلعت فى العام 1839م ؛ وتقول كتب التاريخ: إن السبب فى اندلاع هذه الحروب هو  محاولة الصين الحد من زراعة الأفيون واستيراده؛ مما حدا ببريطانيا أن تقف فى وجهها بسبب الأرباح الكبيرة التى كانت تجنيها بريطانيا من تجارة الأفيون فى الصين؛ ومن جرائها أصبحت هونج كونج مستعمرة بريطانية، وارتُكبت فى تلك الحروب مجازر وحشية من البريطانيين وحلفائهم، والأدهى والأمَرْ أنهم خالفوا كل القيم والشرائع الدينية والبشرية فى سبيل نشر تعاطى الأفيون بين الشعب الصينى؛ لسهولة السيطرة والتحكم فى عقول الشعب وبخاصة الشباب، وتشير الإحصائيات إلى رصد مايقرب من مائة وعشرين مليون فرد من الشعب وقعوا فى براثن الإدمان وعدم القدرة على الإنتاج أو العمل، بالإضافة إلى انتشار الأمراض العضوية بين هذه الجموع من المدمنين لجرعات الأفيون، واستمر هذا الداء مستشريًا فى جسد الشعب الصينى حتى ظهر فى مقدمة صفوف ما يسمى بالمسير الطويل ـ نحو الحرية والاستقلال ـ  الزعيم الروحى «ماوتسى تونج»؛ الذى قضى على تلك الظاهرة نهائيًا والعالم يخطو أولى خطواته على درب القرن العشرين، ليستيقظ «التنين الأصفر» من سباته العميق طوال قرون ويغزو العالم بمنتجاته واختراعاته؛ فيما عُرف بالثورة الصناعية التى واكبتها الثورة الثقافية والاجتماعية فى مجالات الحياة جميعها!.



لم تتقافز كل هذه  التداعيات التاريخية التى جالت بخاطرى صدفة و لم تأت عفوًا، بل اقتحمت ذاكرتى نتيجة لـ«الحوادث الغريبة» على المجتمع من جرائم السرقة والنهب والاختطاف والاغتصاب والقتل؛ جراء الإسراف فى  تعاطى المخدرات بكل أنواعها التى انتشرت فى جنبات المجتمع وبين كل الطبقات؛ تلك الحوادث  التى  نطالع وقائعها على صفحات الصحف اليومية والمجلات؛ نقلاً عن صفحات دفاتر أحوال الشارع المصرى التى يتم رصد بعضها فى دفاتر أقسام الشرطة؛ ويضيع أكثرها بين خوف العائلات على بناتهن من القيل والقال على لسان المجتمع الذى لايرحم ولا يبحث ـ فى الوقت نفسه ـ عن حلول جذرية لمشاكل تفشى داء المخدرات؛ وبين الدخول فى دوائر الانتقام التى لاتنتهى من مرتكبى تلك الجرائم فى حق المجتمع والدولة بلا ذرة من حياء أو خجل! 

وعلى الرغم من محاولة علماء الاجتماع وأساتذة الطب النفسى إيعاز هذا الإدمان إلى طبيعة العصر من سيطرة «القلق والتوتر» على أدمغة الشباب ؛ نتيجة مواجهة العديد من المشاكل التى تحاصره داخل المجتمع؛ ومواجهته شبح البطالة نتيجة عدم وجود الدراسات الاستراتيجية ـ على المدى القصير والطويل ـ  لاحتياجات المجتمع من العمالة الفنية والإدارية والهندسية والاقتصادية والخدمية؛ مما يؤدى إلى الدخول فى صراعات الحصول على «وظيفةٍ ما» تضمن الدخل الضعيف  الذى  قد ـ يوفر حد الكفاف للحياة الآدمية؛ وهى غالبًا لاتتفق مع «مؤهلات وكفاءة «صاحب هذا الشرف الرفيع؛ كذلك يأتى ارتفاع مؤشرات الرسوم البيانية فى جداول الأسعار؛ تزامنًا مع تدنِّى المدخلات من الرواتب والبدلات والمكافآت، عاملاً ضاغطًا على معشر الشباب الذى يترك المجتمع خلف ظهره بكل صراعاته ومشكلاته .. ويقوم باللجوء ـ مجبرًا وصاغرًا ـ  إلى التسكع تحت ظلال وأنفاس السحابة الزرقاء وفوق أرصفة الشوارع الخلفية؛.. وما أدراك ما تخفيه الشوارع الخلفية فى بلدان العالم الثالث! 

ففى الشوارع الخلفية.. لايكمُن شبح المخدرات فقط؛ بل يكمن بين أدغاله وأركانه ونتوءاته ما هو أخطر من المخدرات فى العمل على تغييب العقول والأفكار؛ ومحاولة محو الهويَّة والتشكيك فى الانتماء الوطنى.. وحتى العقائدى، فهناك زبانية الشر الذين يقفون لاصطياد الهاربين من المجتمع ومشكلاته؛ بحجة الإيهام باللجوء ـ المزيَّف والمزيِّف ـ إلى سبيل «الله» عن طريق وسطائهم الذين يتلفحون ـ مظهريًا ـ  داخل «عباءة الدين»؛ ليصبح الشباب بين ليلةٍ وضُحاها كالمستجير من الرمضاء بالنار؛ ليقاسى بين دفتيى الرحى: المخدرات وسحيباتها الزرقاء من جهة.. والأفكار المضلِّلة الصفراء من جهةٍ أخرى!  والحديث ذو شجون! فلا نغفل جهود الدولة ووزارة التضامن الاجتماعى ومؤسسات المجتمع المدنى فى العمل على الحد من تفشى الإدمان؛ لذلك.. لنا لقاء قادم لاستكمال  هذا الموضوع الحيوى.. والشائك!

 أستاذ ورئيس قسم الإنتاج الإبداعى بأكاديمية الفنون