الجمعة 19 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
«بالداتشينى».. رجل الفن الصلب

«بالداتشينى».. رجل الفن الصلب

«أستشعر الشكل فى العمق.. حدد المستويات المهيمنة بوضوح.. تخيل الأشكال كما لو أنها تتجه إليك.. كل شىء حى ينبثق من المركز.. يتسع من الداخل نحو الخارج.. البرونز هو الذى يقرر التضاريس.. الشىء الأساسى هو أن تُثار أن تحب.. أن تأمل أن ترتعش أن تحيا.. كن بشرا قبل أن تكون فنانا».



هذه النصائح التى أرساها «رودان» أيقونة فن النحت الحديث فى بيان عن فن النحت.. تشتعل بحرارة نحو إبداع الشكل فى الفراغ.. هكذا هو الفن الحقيقى، أن تكون إنسانا قبل أن تكون فنانا، أن تراهن على إدهاش المتلقى بكل ما فى يمناك من أدوات وهى فى فن النحت كثيرة ومتشعبة وتتطور كل فترة قصيرة من الزمن.. وعلى الرغم من أن فنان موضوعنا اليوم ليس من المنتسبين لمدرسة رودان إلا أنه يطبق فى منهجه المتطور هذه النصائح بحذافيرها حتى يصل بالمتلقى لمرحلة النشوة التى يعيشها هو أثناء مخاض العمل،  يصدر لك بهاء اللحظة وعمق المعنى من تزاوج الكتلة فى الفراغ وخصوصا تلك الكتلة الصلبة الشاردة التى تشكل بنية فن النحت.. هذا هو سيزار بالداتشينى الذى تشكلت على يديه مدرسة كاملة من فناني «النوفورياليزم» أو الواقعية الجديدة والذى أثبت أن التطوير فى النحت مرتبط بشكل كبير فى الرؤيا الإبداعية لاستخدام الخامة وتحديثها باستمرار كلما أدرك النحات أن هذه الخامة أو تلك قد تعبر بصدق أكثر عن دواخله الشعورية بما ينتج.

 سوف ندخل مباشرة لعوالم بلداتشينى من حيث قرر هو أن يكون المكان أحد ميادين باريس الصغيرة «بالاس دى ميشيل دوبريه».. الموضوع قديم وعالجه النحاتون مرارا فى عصور كثيرة لكن الأمر مختلف عند بالداتشيني، فـ«الكانتاوروس» ذلك المخلوق الخرافى الذى يحمل رأس وجذع جسد آدمى وجسد حصان عند سيزار بالداتشينى هو ثورة فى فن النحت على مستويات عدة أولا وهذا أهم ما يميز بالداتشينى فى هذه الحقبة من حياته الثورة على المادة،  فلقد كان أول الفنانين الذين استخدموا مخلفات المعادن (الخردة) فى الخروج بتكوين نحتى متميز وله معنى على أساس استخدام أجزائها وأطرافها كجزء تمثيلى فى التكوين النحتى وليست كمادة أو خامة فقط ولعلنا هنا نوضح حتى لا يختلط الأمر على القارئ أن استخدام قصاصات المعادن – كما شاع بعد ذلك عن بعض الفنانين العرب – استخدامها ليس مجرد حالة من اللصق من خلال اللحام والتجميع بدون هدف بغرض محاكاة ساذجة للإبداع الأوربي.. لكن هناك فلسفة تكوينية شديدة الثراء تعتمد على رسم مخطط يكون فيها استخدام ودمج حواف قطع الخردة هى العامل الأساسى فى إخراج التكوين النهائى ولعلنا هنا نقول أن معظم الفنانين العرب الذين حاولوا تشغيل هذه التقنية فى أتيليهاتهم كانت بغرض التقليد وليس بغرض جس نبض الخامة فى الإبداع واستخدام المتوافر من المادة.. والأمثلة كثيرة منها قطعة شديدة الرداءة بجانب قلعة القاهرة الفاطمية على طريق الأوتوستراد لفارس يحمل سيف وهى تبرز مدى صفاقة وتدنى التقليد والمحاكاة عن جهل فى اكتشاف المغزى والفلسفة من الاستخدام. 

نجد أن كل قطعة معدنية فى كانتاوروس بالداتشينى لها دور وظيفى فى العمل وكأنها وحدة بنائية لا يستقيم العمل بدونها وكان استخدام الخردة فى عمل ضخم كهذا يعتبر طفرة فى عالم النحت.. نأتى بعد ذلك للمستوى الثانى وهو الاحتفاظ بحرفيات النحت كاملة ودقيقة دون المساس بها أى أنه على الرغم من أنه يقدم عملا حداثيا وربما تجريبيا لأبعد الحدود حافظ بالداتشينى على خصوصية المقاييس فى النحت الكلاسيكى والحديث فكل عضو من أعضاء «الكانتوروس» متسق المقاييس وواضح ومنطقى على الرغم من الكسر والتوتر التى خلقته قطع الخردة المجمعة بعناية ودقة متناهيين.. فنجد الوجه الآدمى معبرا ودقيقا على الرغم من حالة التمزق التى ميزت أطر الحداثة فى تكوينه.. نجد أيضا مقاييس الأقدام والجزع الخيلى بالرغم من حالة التفكك فإنها متسقة وكلاسيكية فى مواضع كثيرة.. والمغزى هنا أن الحداثة فى معالجة بعض المواضيع النحتية لا تسقط جمال واتساق المقاييس التشريحية للجسد سواء كان حيوانيا أو إنسانيا .

المستوى الثالث فى عمل بالداتشينى هو أن بالداتشينى قد خالف الفكرة الأسطورية نفسها فبدلا من أن يصور الكانتاوروس نفسه كما فى الأساطير بأرجل وحوافر حصان قرر أن يجعل الأرجل والأقدام آدمية وليست لحصان كما هو معروف عن الكانتاوروس وبالتالى كانت تجربته أيضا ثورة على فكرة الشكل الأسطورى حتى نستطيع أن نقول أنه كانتاوروس بالداتشينى فقط وليس غيره.. نجد أن الخردة كما أسلفنا أعطت قيما إضافية للعمل كان من أهمها أن بالداتشينى من دقته فى استخدام الخردة قد عبر عن صفات تشريحية نحتية بها فنجد مثلا فى اليد استخدم قضبان الخردة الأسطوانية ليعبر بها عن الحالة الحركية لأوتار اليد وتوترها نتيجة للحركة.. لا ننسى أن نقول أن استخدام بالداتشينى للون واحد للطلاء لجسد عملة الفنى أكسبه عمقا ومصداقية وأكمل بها نصائح رودان فخرج علينا بتحفة جعلت ميدانا صغيرا فى باريس يصبح من أجمل ميادينها بهذا العمل الفنى الذى يقدم الحداثة ولا يبخس قيمة الفن الحقيقى بادعاء الحداثة .

كان لبالداتشينى قصب السبق فى تطويرات عدة فى مدرسة الواقعية الجديدة فلقد قدم لنا عنصرا عضويا من جسد الإنسان أو عدة عناصر عبر بها عن جمالية العضو البشرى فى حالة أحادية وكانت البداية فى ستينيات القرن العشرين عندما قام بعمل نموذج نحتى كلاسيكى وتشريحى لأصبع الإبهام كان فى البداية يبلغ طوله 45 سنتى متر لكنه بعد أن خرج ببهاء الفكرة كرر التجربة فى أماكن عدة فى فرنسا وسويسرا وإنجلترا وكل مرة يضاعف من حجم الإبهام حتى وصل به إلى إبهام عملاق طوله 12 مترا فى لاديفونس ولما سئل عن معنى الإبهام قال : هو حالة من حالات القبول البشرى التى تعبر عن مشاعر التصميم والرضا والإصرار.. بالطبع قام بعمل نماذج لكف الأيدى كاملة منتشرة فى كافة أنحاء أوروبا.. وأيضا سعى الكثير من النحاتين العرب لتقليده تقليدا أعمى دون التفكير فى الرمز .

بعد أن استخدم بالداتشينى فى مستهل حياته الفنية قطع الخردة ومخلفات المعادن فى أعماله الفنية التى ميزته فى بدايته مثل الطيور والحشرات والحيوانات من خلال استخدام قطع الخردة كأجزاء تفصيلية للتشريح كما أسلفنا.. حتى أنه استخدم بعد ذلك قطعا كاملة للتعبير عن رمز دون الحاجة لوجود مجسم ذي معني.. مثل استخدامه للسيارات كاملة مضغوطة من مقبرة السيارات مع إضافة بعض المعادن الملونة فى مكينة الضغط للتحكم فى لون العمل الفني.. وبعد أن وجد بالداتشينى نفسه قد تشبع من استخدام المادة المعدنية والخردة وأحس بأنه استنفد طاقة المادة الإبداعية بحث عن مواد أخرى فاستخدم المخلفات بلاستيكية ثم خام البوليوريثيان ويصنع منه الفوم أو الضاغط الصناعى وكان يستخدمه للتعبير عن التمدد.. ثم استخدم الكريستال المسال والذى شكله ووظفه كجزء من أعمال فنية عبر به عن المركبات الشفافة مثل المياه وغيرها من السوائل.. ولعلنا لا نخطيء القول إذا قلنا أن بالداتشينى مر بثلاث مراحل وهى المرحلة المعدنية ثم المرحلة البلاستيكية ثم المرحلة الكريستالية على افتراض أيضا تداخل وتفاعل المراحل الثلاث.. ولقد عهدت إليه شركة ماكلارين للسيارات بطلاء وتزيين سيارتها الشهيرة للمشاركة فى أحد السباقات الدولية وأصبحت هذه السيارة الآن هى السيارة الوحيدة التى تحمل توقيعا لفنان عالمى حتى أن سعرها تعدى المائة مليونى يورو بحسب الخبراء.