الأربعاء 24 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
السيسى وماكرون

السيسى وماكرون

لم أستمتع طوال حياتى بمؤتمر صحفى لرئيسين كما استمتعت بمؤتمر الرئيس عبدالفتاح السيسى والرئيس الفرنسى إيمانويل ماكرون، خصوصا فى الدقائق العشر الأخيرة من وقائعه، والتى جاءت تلقائية وغير مرتبة سلفا، لكنها عكست حالة مختلفة تمامًا.



الشاهد إننا كنا أمام حالة حوار فكرى عميق، لا يدور إلا فى لقاءات مفكرين، حول قضية جدلية لها أبعادها الفلسفية والفكرية، وهم – المتحاورون – أصحاب رؤية وفكرة يجتهدون فى حوار مُتعمق، لشرح أبعادها ومكوناتها النظرية، وإنعكاساتها على حياة البشر.

 السيسى قدم لثقافة الشرق القائمة فى أولوياتها على احترام الأديان، كون ذلك انعكاس لأولوية القيم الدينية، وأهميتها فى وجدانية الشعوب وثقافتها، مقابل ما ذكره ماكرون من أولوية للقيم الإنسانية، فوق كل اعتبار .

لست مهتمًا بمسألة مسئولية الدولة عن رسم مسيء من هنا أو هناك، وهو ما حاول ماكرون توضيحه، واصفًا إياه بأنه حرية شخصية، لا تعنى أبدا تبنى الدولة لها أو الدفاع عنها، وإنما المهم ما ذكر أنه الدفاع عن القائم على هذه الرسوم وحقه فى ممارسة رأيه، كجزء من قيم الدولة العلمانية الفرنسية، وباعتبار ذلك لا يخص المسلمين فقط وإنما يتكرر فى بقية الديانات من دون تربص بدين محدد.

أفكار ماكرون جاءت فى سياق التفاعل مع رؤية السيسى، والتى أكد فيها رفض أى قبول لمبدأ الإرهاب مهما كانت مبرراته، وهو أيضا أوضح أن القيم الدينية واحترام وتقدير مشاعر الآخرين الدينية تسمو فوق أى حقوق، ولها الأولوية، وأن الحرية لا تعنى الإساءة لأديان أو رموز الديانات الأخرى، وذلك فى سياق مراعاة المشاعر الدينية للغير.

نحن أمام رؤيتان لكل منها أسانيدها الفكرية، وقواعدها النظرية، فى إطار رؤية للإطارات المنظمة لحياة البشر، وفقا لمفاهيم محددة، أحدها العلمانية الفرنسية التى لا تخلط الأمور وتفرق بين الديانة وبين حقوق البشر، والثانية المصرية، التى ترفض الإرهاب مبررًا للرد على التجاوزات، وفى الوقت ذاته تحترم حق البشر فى الاختيار والانتماء الدينى، لكنها لا تقبل بالإساءة للأديان والرموز الدينية، وتخرج بهذا الشأن من إطار الحريات العامة.

إذا كانت المادة 19 من العهد الدولى للحقوق المدنية والسياسية، قد حددت فى البند ثالثا إمكانية وضع قيود على حقوق التعبير وحددتها فى الفقرة (أ) باحترام حقوق الآخرين أو سمعتهم، وفى الفقرة (ب) لحماية الأمن القومى أو النظام العام أو الصحة العامة أو الآداب العامة، فإن رؤية السيسى تتضمن قيدا جديدا نحتاج لإضافته إلى القيود التى أقرها المجتمع الدولى على حريات الرأى والتعبير على مدار حقب وعهود طويلة منذ إصدار العهد الدولى عام 1966 وحتى الآن.

المسألة أن البيئة السياسية العالمية الجديدة، صاغت مناخًا مختلفًا، وأضافت الى عناصره ومكوناته صراع الحضارات بين الشرق والغرب. وحين تمكنت الرؤى الإنسانية من الأمر، وقلبت المشهد إلى حوار حضارات بدلا من الصراع، دفعت قوى عالمية للمشهد بالإساءة الى الديانات استنادا إلى رموز الإرهابيين، ليجد المجتمع الدولى نفسه أمام حالة جديدة، تستوجب وتحتاج نظرة جادة وحقيقية لقيود حريات الرأى والتعبير، من دون إصطناع لتبرير دوافع استبدادية، أو تفريغ هذه الحريات من مضمونها.

تقديرى أن الحوار الفكرى الذى شاهدنه فى نهاية المؤتمر الصحفى للرئيسيين السيسى وماكرون، يحتاج إلى تحويل مساره من تصريحات رئاسية سياسية إلى قاعدة حوار بين مفكرين، يرتكن على المادة 19 من العهد الدولى للحقوق المدنية والسياسية، فى شأن ما يُمكن إضافته الى الضمير الانسانى لحماية الأديان من العبث بها، دون المساس بالحقوق البشرية المستقرة.