
نزار السيسى
توظيف الإخوانى للمتأخون
لقد ضمت هذه الجماعة الإرهابية تيارًا واسعًا من اليساريين والليبراليين والكثير من عامة الناس بسبب تغلغل الفكر الإخوانى فى هياكل ورأس المال الاجتماعى فى بعض المشروعات العربية والاسلامية. وتتعمق المشكلة بشكلٍ أكبر عندما يوظف الإخوانى الأصيل الإخوانى المزيف من دون دراية ووعى حقيقى من الأخير بأنه مجرد ترْس فى مكنة المشاريع والأهداف الاستراتيجية الكبرى التى يديرها الأول. وقد تكرر مشهد هذا التوظيف البراغماتى فى أكثر البلدان العربية وفى أكثر من مشروع خصوصا عند تحولات «الربيع العربى» فى مصر واليمن وتونس وسوريا وليبيا، عندما نجح الإخوان الأصلاء فى توظيف الحركات الحقوقية الليبرالية واليسارية والمدافعين عن الحقوق والحريات التى لعبت دور الإخوانى المزيف، وقدّمت بشكل لا واعٍ خدمات استراتيجية كبرى لجماعة الإخوان المسلمين، رغم تناقض منطلقاتهم الفكرية وتضارب مرجعيتهم القيمية الكلية فى الاستدلال على الواقع السياسى.
وتكتيك تقسيم العمل بين الإخوان الأصلاء والإخوان الزائفين غالباً ما يتم اتباعه فى المؤسسات العامة وقطاعات تشكيل الوعى المعرفى والاجتماعى والسياسى ،ففى الكثير من الحالات، يتخفى الإخوان الأصلاء وراء الإخوان الزائفين؛ لأن تحقيق أجندتهم الخاصة ونجاح مخططاتهم السرية واكتساب الشرعية الدولية فى بعض الحالات مشروط بغياب تصدرهم المشهد السياسى، وإفساح ميدان السلطة للإخوان الزائفين للإدارة الشكلية لصناعة القرارات، فى حين أن الإخوان الأصلاء هم من يديرون خيوط اللعبة بأكملها من وراء الستار ووراء الكواليس. وهذا الأسلوب من العمل التكتيكى عادة ما يتكثف فى المنظومات العقلانية الأربعة المتحكمة فى الوعى الجمعى، والتى تشكل أهم عناصر التنشئة الاجتماعية التى تصوغ وتبلور الوعى العام فى المجتمع: الإعلام، التعليم، الأسرة، المؤسسات الدينية. وفى الواقع، فإنَّ من يمتلك مصادر تشكيل هذه الرباعية المسيطرة على العقل الجمعى، فقد تحكم فى كل مفاصل القوة وهياكل السلطة. بل يمكن القول إن من يتحكم بوسائل إنتاج تلك القوى الوسيطة العقلانية الأربع هو من سيمتلك روح وعقل المجتمع ويتحكم فى بنية الشخصية الاجتماعية الكلية، ويبرمج نشاط وردود الفعل لأفراده. وقد أثبتت التجارب التاريخية بأنَّه فى بعض المراحل التى تتآكل فيها القوة الحقيقية للإخوان الأصلاء بالسيطرة على هذه المؤثرات الأربعة، فإنها تحيل سلطة السيطرة بشكل أو بآخر إلى الإخوان الزائفين لتحقيق أجندتهم الخفية بهم من وراء الكواليس.
وفى هذا السياق، من الممكن التمييز بين الإخوان الأصلاء والإخوان الزائفين من حيث الدوافع الآيديولوجية وبنية الشخصية، ففى حين أن الإخوانى الأصيل غالباً ما يميل إلى التصريح بميوله ودوافعه الآيديولوجية علانية وبشكلٍ واعٍ والتقلب البراغماتى وفق تغير الظروف السياسية، فإن الإخوانى المزيف غالباً ما يكون منفصلاً عن تلك الدوافع الأيديولوجية بشكل لا واعٍ، ومتناقضاً على مستوى الفكر والسلوك، بحيث يؤكد المستوى المفاهيمى والنظرى والفكرى انفصاله عن جماعة الإخوان، وإنكار انتمائه للمرجعية الفكرية الكلية لتلك الجماعة، فى حين أن موجهاته الإدراكية، ودلالات خطابه السياسى، وسلوكياته الذاتية وردود أفعاله تؤكد تأثره بمنظومة التفكير السياسى لتلك الجماعة.
ومن المفارقات المثيرة التى تستوجب دراسة إمبريقية واسعة، إن الإخوان الزائفين فى بعض الحالات والمواقف السياسية يظهرون ردود أفعال متشنجة أكثر تزمتاً وتعصباً من الإخوان الأصلاء حيال الاتجاهات التى تمس مكونات المتلازمة السياسية المذكورة. بل الأكثر خطورة أن معظم الإخوان الزائفين غالباً ما يكونون أكثر ميلاً للانحياز إلى الدعاية والبروباغندا الإخوانية الفاشية من دون وعى وإدراكٍ حقيقى بأن الأصلاء غالباً ما يوظفونهم «كمطايا أداتية» أو «كحصان طروادة» أو كأدواتٍ سياسية من أدوات الصراع السياسى، وعند لحظة قطف الثمار عادة ما تنفض عملية التواطؤ الضمنى مع الإخوان الزائفين ويعاد إنتاج تحالفات جديدة يكتشف فى معظمها الإخوان الزائفون بأنهم خارج منظومة لعبة الخيارات العقلانية التى يتم من خلالها تعظيم المكاسب الذاتية للجماعة، وتقليل الخسائر الممكنة إلى الحد الذى يُقدمُ فيها الإخوان الزائفون قرباناً إلى مذبحة المنافع المحتملة للإخوان الأصلاء، وهو الأمر الذى أفضى إلى صراعات دموية، كحال تحالفات الجماعة مع الناصريين والسادات فى مصر، ومع المؤتمريين فى اليمن والسودان، والبعثيين فى سوريا، وغيرهم من الدول الأخرى فى عملية التمييز بين الإخوان الزائفين والأصلاء.
وبطبيعة الحال، فإن مخرجات هذه الدراسة قد تعرضت إلى نقد علمى أسوة بأى دراسة علمية، سواء فى مجال العلوم الإنسانية أو فى ميادين العلوم الطبيعية. بيْد أن هذا النقد المنهجى لم يلغِ حقيقة أن هذه الدراسة شكلت تحولاً علمياً فى النماذج الإرشادية فى التفكير العلمى فى دوائر العلوم الاجتماعية سواء على مستوى البنية النظرية أو على صعيد الإطار والأدوات المنهجية المستخدمة فى الدراسة. ورغم أن نتائج هذه الدراسة قد أحدثت ضجة فكرية واسعة فى منتصف القرن المنصرم، فإن كثيراً من الباحثين أعادوا إنتاج مخرجاتها البحثية فى العقد الأخير من هذا القرن بهدف دراسة بروز اليمين المتطرف فى العالم الغربى، وفهم الظاهرة «الترمبية»، التى أطلق عليها بعض أساتذة العلوم الإنسانية مسمى «الترمبولوجى» لإبراز مدى تغلغل عناصر الشخصية التسلطية فى الأفراد المنتسبين إلى اليمين المتطرف الذين تقاطعت معتقداتهم الأيديولوجية مع التوجهات الأيديولوجية العدائية للرئيس ترامب.