الجمعة 12 يوليو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
لغة الجينات 35 

لغة الجينات 35 

ما بين الغرور والثقة الزائدة بالنفس شعرة .. «الغرور»  فى الظاهر، شعور بالعظمة وتوهّم الكمال، أن  ترى نفسك أعلى من البشر، ذو قيمة أعلى من كل من حولك، قادر وحدك على فعل كل شىء، وفى الباطن شعور داخلى بالنقص يحاول المغرور أوالمتكبّر تغطيته برداء غروره وتكبّره.. يقدِّم لنفسه عن نفسه تصورات وهمية تقوم على تهويل إمكانياته الفذة، جينات خبيثة طمست  نور العقل والحكمة والبصيرة…



«المغرور» فى الظاهر يغالى فى تقييم نفسه، دائم الاستعلاء على الناس، يحب الجاه والظهور،  لا يتحدث إلا عن نفسه ومحاسنه وفضائله، واستنقاص غيره واستصغاره، دائم تحقير الناس وتسفيه آرائهم  وأعمالهم، لا يعترف بفضل أحد، يغدر بكل من حوله ليبقى هوالأهم والأقوى، يحيط نفسه بأصحاب الجينات الخبيثة،المنافقين، لا يستريح إلاّ قريبًا من ضعاف النفوس،المهزوزين، فلا يسعده إلا تملقهم  المزيف، وثناءهم  الكاذب على كل تصرف وكل كلمة يقولها أويكتبها،فهوالملهم، الراهب فى محراب القراءة والثقافة والعلم والدين والأخلاق .

 وفى الباطن تبدأ التغيرات والتبدلات فى سلوكياته، يخاطب الناس من طرف أنفه، ينقل  عدوى غروره وغطرسته  إلى المحيطين به والتابعين له.

«أصحاب الجينات الأصلية» لا يعرفون الغرور .. هم فى الظاهر كما فى الباطن،لا يعيشون حالة الورم فى شخصياتهم، بل تراهم كلّما ازدادوا علماً أوجاها وثراء، تواضعوا لله وللناس أكثر .. تواضعهم الجمّ  يزيد فى حبّ الناس واحترامهم لهم، وتقديرهم...أصحاب مواقف ثابتة راضون  عن أنفسهم  ومتصالحون  معها ومع الآخرين،قادرون  على إخراج كل ما يملكون من طاقة وإبداع.

«نجيب محفوظ»  الأديب الكبير والفيلسوف الذى عاش حياته ببساطة مبهجة، ومستحيلة فى الوقت نفسه،واحد من أصحاب الجينات الأصلية ممن لم يعرف الغرور الطريق إليهم رغم ما حققه من إنجازات .

«نجيب محفوظ» فى الظاهر أديب كبير حاصل على نوبل وقلادة النيل ورواياته تحولت إلى أفلام عظيمة، وفى الباطن شديد التواضع والتسامح مع نفسه ومع الناس،منظم جدًا، قضى 37 سنة من عمره فى الوظيفة الحكومية ويقول عنها  «الوظيفة أخذت نصف يومى لمدة 37 سنة علمتنى النظام وأمدتنى بنماذج بشرية لها الأثر فى كتاباتى». .. كان يدرك أن العمر ضيق، وأن الأدب ليس نزوة، وأنه فى حاجة إلى جهد كبير، هائل، إلى المعايشة العميقة لحياة الناس،إلى التحصيل المستمر، ليقدم ابداعًا حقيقيًا .

«محفوظ» فى الظاهر كان ملئ السمع والبصر خاصة بعد أن نال جائزة نوبل، وفى الباطن ظلت حياته تتّسم بالبساطة والتواضع، فبعد إعلان فوزه بجائزة نوبل بشهر واحد، أراد أن يستريح قليلًا، فأخبر سكرتيرته بجريدة الأهرام التى كان يكتب فيها مقالا أسبوعيا بألا تحدد أى مواعيد لأنه سيذهب إلى الإسكندرية لقضاء يومين للاستجمام.

 وسألته السكرتيرة كيف ستُسافر، فقال لها بالأتوبيس العام، فقالت السكرتيرة، ولكن الآن بعد نوبل، فقاطعها «وماذا بعد نوبل؟ أنا كما أنا لم يتغير شىء فى حياتى»

 وأضاف: « من حق أبناء البلد علىَّ  يرونى بينهم،أن يصافحونى، فإن إقبالهم على قراءة كتاباتى هوالذى منحنى فى النهاية هذه الجائزة، وأسوأ ما يمكن أن يحدث لى هو أنّ تعزلنى نوبل عن الناس».

«محفوظ» فى الظاهر قسم  قيمة الجائزة بينه وبين زوجته وكريمتيه» أم كلثوم وفاطمة  بالتساوى،وفى الباطن  تبرع بالجزء الخاص به بالكامل إلى مرضى الفشل الكلوى.

«الأديب الكبير» رفض كتابة سيرة ذاتية عن حياته لإيمانه بأنها حياة عادية ليس فيها ما يثير الاهتمام وظل فى الظاهر يمارس نفس طقوس يومية برتابة وروتينية شديدة،يقرأ ويكتب فى نفس المواعيد، يلتقى أصدقاءه فى ساعات محددة جدا، وفى الباطن كان أرشيفًا تاريخيًا وإنسانيًا قيّمًا وهامًا، أديبًا حقيقيًا ولولاه ما كانت  الرواية المصرية، أوكما قال عنه توفيق الحكيم  « لولا نجيب محفوظ ما قامت للرواية العربية قائمة»، شاهداً متزناً على أهم التحولات السياسية والاجتماعية والفنية والأدبية فى تاريخ مصر بدأً من ثورة 1919م التى تشبع بروحها وبأفكار زعيمها سعد زغلول ثم ثورة يونيو1952، مروراً بصعود أحزاب سياسية واندثار أخرى وصولاً  لآخر ما عاصر من رؤساء مصر وهوحسنى مبارك، الذى منحه قلادة النيل العظمى بعد أن أدرك أهميته كرمز فكرى مصريّ بعد فوزه بنوبل للآداب وقد كشفت ابنة محفوظ بعد ثلاثين عاماً من تاريخ منحه القلادة أنها كانت قلادة مزيفة ولم تكن من الذهب الخالص حسبما يُفترض.

«محفوظ» فى الظاهر حاولوا النيل منه بكل طريقة ولدرجة اتهامه بالتطبيع مع الكيان الصهيونى وأن هذا سبب فوزه بجائزة نوبل، بعد أن نشرت صفحات إسرائيلية رسالة منسوبة للأديب،موجهة إلى طالب يحمل الجنسية الإسرائيلية، وفى الباطن  لم تكن سوى رد على رسلة من طالب أمريكى يدرس فى جامعة أمريكية يعمل على إعداد رسالة دكتوراه عن أدب محفوظ  وقد أرسل له وقتها الأديب الكبير ما يحتاجه من معلومات. 

أحذر فالغرور مرض، انتحار، أحياناً فردى وأحياناً قتل جماعى لوكان المغرور صاحب سلطة ونفوذ .. الغرور عمى بلا بصيرة والسقوط نهاية حتمية

الغرور معول خراب وهدم، والمغرور انسان نفخ الشيطان فى دماغه، وطمس بصره، وأضعف من ذوقه، فهومخلوق مشوه... احذر.. فالغرور قد يجعل  الحمار يظن نفسه عالما لمجرد أنهم  حملوه بحقيبة مليئة كتبا.