
محمود عبد الكريم
الجاحظ الساخر من البخلاء
كان الجاحظ واحدًا من ظرفاء بل وعباقرة العصر العباسى وسمى بالجاحظ لجحوظ فى عينيه أما اسمه الحقيقى فهو أبوعثمان عمروبن بحر بن محبوب الكنانى الليثى، من بنى كنانة، بن خزيمة، من مضر ولد فى البصرة عام 160 هجرية تقريبا كما تقول معظم المراجع.
كان أبواه فقيرين جدا وتوفى أبوه وهو طفل وكان جده يعمل حمالا عند بنى كنانة، وعاش فى عوز وضيق مع أمه التى تفرغت لتربيته وكان يحب العلوم والدرس لكنه كان قبيح الملامح أسود الوجه قصيرا دميما كجده قيل فيه شعرًا
لو يمسخ الخنزير مسخا ثانيا.. ما كان إلا دون قبح الجاحظ
وهو نفسه كان يتحدث عن قبحه فقد روى أن امرأة طلبت منه أن يصطحبها إلى دكان أحد الصاغة، فلما وصلت إلى هناك قالت للصائغ « مثل هذا « فسأل الجاحظ ماذا عنت المرأة من ذلك بقولها مثل ذاك، فقال له أن المرأة طلبت منه رسم صورة شيطان على فص خاتم يصنعه لها فاصطحبتك لتمثل الشيطان الذى تريده!
ومع ذلك كان الجاحظ رجلا خفيف الظل بل كان لطيفا محبوبا وتوطدت علاقته بكبار رجال عصره فاتصل الجاحظ بمحمد بن عبد الملك الزيات وزير المعتصم وكتب له ومدحه وأهداه كتاب « الحيوان « فأجازه الوزير بخمسة آلاف دينار ثم أغدق عليه مالا كثيرا جعله يقوم برحلات لمصر والشام وأنطاكية ولما انتهى الوزير ابن الزيات على يد القاضى محمد بن أبى داود هرب ولكن قبض عليه واقتيد موثوقا مغلول العنق ولما تحدث معه القاضى قال أنا أثق بظرفه لكن لا أثق بدينه.
وجعله المتوكل معلما لأولاده، ولما رأى بشاعته صرفه، وقد ذكر الجاحظ ذلك بقوله «ذُكرت للمتوكل لتأديب أولاده فلما رآنى استبشع منظرى، فأمر لى بعشرة آلاف وصرفنى».
وفى أواخر حياته، طلبه المتوكل فأجابه الجاحظ» ومايصنع أمير المؤمنين بامرئ ليس بطائل، ذى شق مائل ولعاب سائل، ولون حائل؟».
لم يهجره الألم ولم يتركه بل تفاقم، وظل يرافقه مرافقة الكتب له وماكاد يطوى صفحة من صفحاتها، حتى طوت سطور أيامه الأخيرة بسقوط هذه الكتب عليه فكانت قبرا له ومات مغمورا بالحبر وبالورق عام 255 هجرية.
فى كتابه الأشهر البخلاء وهو واحد من مائة وسبعين كتابا تناول العصر العباسى مابين السطوروشئون الناس فى هذا العصر وما أحاط بها من تغييرات طارئة وعادات دخيلة وتقاليد غريبة وأفكار جديدة اقتصاديا وسياسيا واجتماعيا.
وكتاب البخلاء كتبه يصوربه أحوال فئة من الناس اتخذت لنفسها منهجا معينا فى التفكير والتصرف والسلوك وكانت مقتنعة به اقتناعا كبيرا، كان البخل واقعهم ومفهومهم وحياتهم التى يسيرون عليها متسترين بالعلم لإقناع الناس بسلوكهم وكتاب البخلاء تعدى فى صفحاته الضحك والمرح وغدا أعمق وأشد فهو أقرب إلى الردع والتأنيب والسخرية.
ورغم ذلك هناك فريق من الدارسين يرى أن كتاب البخلاء ما كتب فيه إلا لأن الجاحظ نفسه كان واحدا منهم لذلك عرف أحوالهم بدقة.
وكتاب البخلاء من الكتب النفيسة لأنه دراسة واقعية لردة فعل اقتصادية اتبع فيه أسلوبا قصصيا إخباريا يربط فيها الأخبار ببعضها وتميز كتابه بالموضوعية حيث تجرد عند كتابته من ذاته وترك البخلاء يتحدثون عن أنفسهم دون أن يدخل نفسه شريكا فى الصورة أو موجها وناصحا.
لقد رسم أبو عثمان بخلاءه فى كتابه بريشة ماهرة ساخرة يصعب على المتقدمين والمتأخرين استعمالها أو التصوير بها.
واعتمد فى تشريح البخلاء الذات البشرية فغاص إلى كل أعماقها يستنبط مافيها من عقد وغرابة وغموض متبعا أسلوبا مسرحيا نادرًا لم يصل إليه أحد من الكتاب.