الجمعة 19 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
اليونان.. ما بين الدين الحضارى والدين المادى

اليونان.. ما بين الدين الحضارى والدين المادى

لعل الشكل الظاهرى للمشهد العالمى سياسيا واقتصاديا قد يُرى على أنه اختلاف وتباين بين الحضارات والأقاليم فى خضم الأزمة العالمية من حيث أيهم أكثر تماسكا وخصوصا إذا قسمنا الكتلة البشرية كما يحب البعض أن يفعل إلى شرق وغرب، فالبعض يرى أن الكتلة الغربية تتمتع بحظ أكبر اقتصاديا واجتماعيا عن الكتلة الشرقية وهذا يبدو ظاهريا فقط إذا كنا ننظر بسطحية للعملية الاقتصادية والحراك التجارى والإنشائى والتقنى لكننا إذا نظرنا للعلاقة المتشابكة بين الحراك الفكرى والعملية الاقتصادية وجدنا أن زيد يجاور عُبيد كما يقول المثل العربى أى أن الشرق والغرب متجاوران ويعيشان نفس الأزمة بنفس العمق ونفس الصراعات لكن بشكل مختلف.



والحقيقة أن هذه المقدمة التى قد يشوبها الجفاف النظرى والسياسى بعض الشىء هى مدخل طبيعى لنظرية جديدة تشغل العديد من المفكرين والمثقفين وخصوصا الأكاديميين منهم وهذا ما يظهر لنا فى الإصدار الجديد لمطبوعات جامعة هارفارد لأكاديمية واعدة وهى البروفيسور جوانا هانينك أستاذة الدراسات الكلاسيكية بجامعة براون بأمريكا وحيث تطرح هذه الفكرة بعمق فى كتابها الجديد – الدين الكلاسيكى الآثار الإغريقية فى زمن التقشف – وحيث تتخذ اليونان نموذجا لحضارات الماضى التليد والحاضر المزعج سواء من ناحية الأسباب والمسببات أو سواء من ناحية الدفع الديموجرافى والعنصر البشرى وقناعاته الحالية وهى تضع نصب أعيننا فكرة الدين الرمزى والدين الحقيقى وقيمة التاريخ المادية إذا جاز التعبير.

 

فى البداية علينا أن نطرح أمام القارئ الفكرة الحضارية من جانب مهم للغاية وأعتقد أن هذا الجانب يتعرض من قبلنا لخلط كبير وتخبط وهو ديمومة الفكرة الحضارية وهل نستطيع اعتبار أقليم ما كان يتمتع قديما بحضارة عريقة نستطيع أن نعتبره ذا حضارة حالية قياسا على ما مضى أم يكون هذا وهما وتخليطا؟ فى الواقع الإجابة على هذا السؤال معقد وخطير ويتمخض عن تعرية بواطن كثيرة فى النظرية الحضارية فمثلا ودون مواربة لا نستطيع أن نعتبر شعبا مثل الشعب المكسيكى مثلا شعبا متحضرا ومبدعا قياسا على ماضى حضارته الغابرة التى سادت أمريكا اللاتينية يوما ما مثل حضارة الأزتك والمايا ودعنا نوضح السبب أولا الشعب ذاته إذا افترضنا ان هناك جينا للعبقرية فى تكوينه ليس هو الشعب القديم وليس هو العرق الذى كان يقود يوما ما حضارات أمريكا اللاتينية لكنه خليط من هجرات واستعمارات وأعراق كثيرة قد لا يشكل فيها الجنس الأصلى نسبة أكبر من 15% على أقصى تقدير، كما ان مقومات الحضارة نفسها اختلفت.

 

تطرح جوانا هانينك هذه الفكرة لكن بشكل فيه الكثير من التحفظ فهى تفترض أن التحولات التى لاحقت الشعب اليونانى هى السبب فيما يجعل اليونان الآن على حافة الانهيار بحيث تؤكد هانينك أن التخلى عن الهوية الهللينية من جانب اليونانيين المعاصرين وطمعهم فى الحياة الفنتازية التى تتمتع بالأعراق فى التكنولوجيا والرفاهية وخاصة بعد الانضمام للاتحاد الأوروبى ولعل هذا ما دفع الهيئات الاقتصادية وقتها تكذب بشأن معادل التضخم فى الاقتصاد اليونانى وإخفاء أنه يتجاوز النسبة المطلوبة للانضمام لمجموعة دول اليورو، وتقدم مقارنة بين الشعب اليونانى الآن وبين الشعب اليونانى فى القرن الثامن عشر والتاسع عشر والذى كان فى هذه الحقبة متمسك بهويته بشكل كبير ومثالى مما أدى لإحياء الروح الهللينية وظهور الحركة القومية الهللينية فى مواجهة العسف العثمانى التركى واستعماره الصريح والسافر للجزر والأقاليم الإغريقية ومحاولته أن ينسب ما أخذه من الحضارة الإغريقية لذاته الوليدة حضاريا والتى لم يكن يتعدى عمرها آنذاك 300 عام.

 

تتساءل هاننك فى كتابها هل للدين الثقافى من تأثير بل هل له قيمة فى مواجهة الدين المادى؟ وهذا بالتحديد المقصود من عنوان كتابها الدين الكلاسيكى والمخلفات الإغريقية فى زمن التقشف بحيث تقول أنه منذ عصر يانيس فاروفاكوس مؤسس جامعة أثينا وأول وزير للاقتصاد لليونان وهو الذى اخترع مصطلح الدين اليونانى، وهو مصطلح بدأ يطفو على السطح منذ عام 2010 فى خضم إنقاذ الاقتصاد اليونانى من الغرق،  وتحاول هانينك أن تبين أن الحضارة الأوروبية نفسها هى الصورة الحداثية من الحضارة الهللينية وأن هناك دينا كبيرا فى رقبة أوروبا لليونان التى قدمت علومها وفلسفتها للبرابرة فأصبحوا حضارات أوروبية كبيرة ولولا أفلاطون وأرسطو وأبقراط وغيرهم كثيرون لما أصبحت أوروبا كما هى الآن ولظلت معظم أوروبا برابرة يتخبطون فى ظلام الجهل.

 

تعتبر جوانا هانينك أن المشكلة اليونانية نموذجا مصغرا للمشكلة الأوروبية تلك القارة التى تقبع على صفيح ساخن من مشكلات عديدة صدر كتاب الدين الكلاسيكى الآثار الإغريقية فى زمن التقشف فى 310 صفحات من القطع المتوسط عن مطبعة جامعة هارفارد للبروفيسور جوانا هاننك أستاذة الدراسات الكلاسيكية فى جامعة براون الأمريكية.