الإثنين 20 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
لغة الجينات 43

لغة الجينات 43

«إنكار الواقع».. أومتلازمة دفن الرأس بالرمال.. حالة فريدة يعيشها بعض من أصحاب الجينات الأصلية.. فى الظاهر يرفضون كل ما حولهم.. ينكرون ما يحدث..  يرفضون التسليم بالواقع المرير المعاش.. وفى الباطن يدخلون فى المرحلة الثانية من المتلازمة فبعد الإنكار يأتى الغضب.. فالعقل الباطن عندما يعجز عن فهم ما يحدث ،أو عندما تكون الأوضاع  فوق الاحتمال ، يقوم تلقائيا ،ببعض الحيل والآليات من أجل حماية النفس.



«أصحاب الجينات الأصلية» من كثرة الضغوط فى الظاهر يبدو رفضهم واضحًا من خلال التعامل بلامبالاة مع الكثير والكثير من الأمور.. وفى الباطن يعملون على تغيير  الحقيقة أو التلاعب بها حتى لو ظل هذا التلاعب داخل العقل الباطن.. وبذلك يتخلصون من القلق والتوتر الناتج عن سوء الأوضاع  بدلًا من التخلص من الأوضاع  نفسها.

«حالة إنكار الواقع» فى الظاهر نوع من المقاومة السلبية.. وفى الباطن تؤدى إلى نتائج فى غاية الخطورة فهى الطريق  إلى حالة الرضا أو الاستسلام للأمر الواقع ، وصنع مبررات وهمية للدفاع عن الأوضاع التى كان الشخص  يرفضها فى البداية.

هذه اللعبة الخطيرة كانت سر تعاسة واحد من أهم عباقرة مصر.. الكبير الرائع.. الفيلسوف الشاعر.. صلاح جاهين.. جاهين امتلك جينات أصلية  حاول أصحاب الجينات الخبيثة تلويثها بشتى الطرق.

«جاهين» فى الظاهر شاعر عامية.. وفى الباطن فيلسوف ممكن نلخص رؤيته فى رباعية جميلة قال فيها :» قالوا السياسة مهلكة بشكل عام.. و بحورها يا بنى خشنة مش ريش نعام.. غوص فيها تلقى الغرقانين كلهم شايلين غنايم.. والخفيف اللى عام.. وعجبى»... فلسفته العميقة والبسيطة فى آن واحد، وقدرته على الغوص فى أغوار النفس البشرية، والتعبير عن مكنونات الإنسان.. تجبرك على الاستسلام سريعًا وإعلان حبك له.

«جاهين « فى الظاهر رسام كاريكاتير شهير.. وفى الباطن مدافع شرس عن الحريات لم يتردد فى خوض معركة حامية مع الشيخ محمد الغزالى والذى طالب فى  المؤتمر الوطنى للقوى الشعبية تحت رئاسة جمال عبدالناصر، بـ»تحرير القانون المصرى من التبعية الأجنبية، وتوحيد زى المصريين، وضرورة احتشام المرأة»، وفى اليوم التالى رسم صلاح جاهين صورة  الغزالى يلقى كلمته منفعلًا بينما وقعت عمامته على الأرض، وتحت الرسم علق ساخرًا «يجب أن نلغى من بلادنا كل القوانين الواردة من الغرب كالقانون المدنى وقانون الجاذبية الأرضية»، وغضب الشيخ الغزالى، وفى جلسات المؤتمر خلال اليوم التالى هاجم صلاح جاهين، فما كان من «جاهين» إلا أن رد بكاريكاتير أكثر سخونة يتندر فيه من آراء الشيخ فى المرأة والزى الذى تلبسه.

وبدوره علق الشيخ الغزالى على ذلك بالمؤتمر بقوله: «إن هذا المؤتمر يعطى الحق لكل فرد أن يقول الكلمة الأمينة الحرة التى يجب ألا يُرد عليها بمواويل الأطفال فى الصحف ينبغى أن تحترم نفسها».

واشتعلت المعركة بنشر كاريكاتير آخر لجاهين يصور أطفالًا بؤساء وقد حملوا لافتة كتب عليها «أين الكساء يا مشرع الأزياء، لماذا لا تتكلم إلا عن ملابس النساء؟!» فيما يظهر الغزالى معترضًا طريقهم صارخًا فيهم: «مابتكلمش عنكم يا جهلاء لأنكم ذكور وما ظهر من جسمكم ليس عورة»!.وفى صباح اليوم التالى فوجئ القراء بعدد غير مسبوق من رسومات جاهين، ست صور بعنوان «تأملات كاريكاتيرية فى المسألة الغزالية»، وفى إحدى الصور الغزالى راكبًا جوادًا على طريقة أبى زيد الهلالى ووجهه مصوب نحو ذيل الفرس بينما يحمل رمحًا كتب عليه «الإرهاب باسم الدين» وتحت الرسم تعليق زجلى ساخر على شاكلة أشعار السيرة الهلالية.

فقام الشيخ الغزالى بنقل المعركة إلى المنبر وألقى خطبة حماسية بليغة جعلت المصلين وأغلبهم من طلبة الأزهر يحملونه بعدها على الأعناق ثم توجهوا إلى مبنى الأهرام وتعالى هتافهم معتبرين صلاح جاهين عدوًا للإسلام، وحدفوا المبنى بالطوب وكسروا واجهته الزجاجية...وفى اليوم التالى رسم جاهين كاريكاتيرًا  يصور فيه نفسه مع الغزالى فى المحكمة وقد رشقه الإمام بخنجر كتب عليه «الإرهاب»... واستمرت المعركة حتى تدخلت الدولة.

«صلاح جاهين»  فى الظاهر ظل يرسم البهجة بـ«الكاريكاتير».. سيناريست وممثل وكاتب أغان ورئيس تحرير ، ومبدع عبقرى، وفى الباطن كوكتيل إنسانى موهوب ومعطاء لم يحتفظ بالمسافة المناسبة بينه وبين السلطة فاحترق بنارها...سحقت هزيمة يونيو 1967  روحه وأكملت دائرة اكتئابه وأغلقت طوق الحلقة الجهنمية على عنقه، فأصحاب الجينات الخبيثة مبكرًا جدًا نسجوا خيوطهم حوله وحولوه إلى مدافع قوى عن السلطة.. وعندما حدثت النكسة ، الكثير من المثقفين علق عار الهزيمة على عنق جاهين واتهموه  بأنه شارك فى صنع الوهم وتخدير الناس.

كان ذنب جاهين  أن أصحاب الجينات الخبيثة تمكنوا منه.. حولوه إلى درويش يدافع عن قداسة وتنزيه  شخص وتبرير كل سلوك يقوم به المختار.. جعلوه مدافعًا عن شعارهم الباقى دائمًا والصالح لكل زمان ومكان  «هو كويس..لكن اللى حواليه هما الفاسدين».. وبقدر حجم الحلم والأمل جاء حجم الصدمة، فكان الاكتئاب الذى قضى عليه.

احذروا من أصحاب الجينات الخبيثة.. البارعون فى غرس متلازمة الحزن.. الإنكار..الغضب..المساومة، ثم الاستسلام فالرضا وانتظار ما هو آت.