الإثنين 20 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
لغة الجينات 49

لغة الجينات 49

فيه فرق بين البلاء والابتلاء.. البلاء مصيبة فى جوهرها عقوبة، والابتلاء اختبار لتمييز أصحاب الجينات الأصلية من الصابرين والصادقين  وكشف أصحاب الجينات الخبيثة من الساخطين والكاذبين.



«الابتلاء» فى الظاهر نقمة وفى الباطن نعمة تغسل الذنوب وترتقى بالروح وتفتح أبواب النور فتبدو الحقائق ساطعة.

«الابتلاء» فى الظاهر يأتى فى صورة  مشقة وتعب، وفى الباطن قد يأتى لك فى وظيفة كبيرة أو منصب رفيع، أو سلطة مطلقة تتجبر فيها وبها على الناس وتسرق  الحقوق أو تمنعها عمن لاتريد وتمنحها  لمن تريد دون وجه حق.

 «الابتلاء» قد يأتى لك فى الظاهر فى صورة التفاف الكثيرين حولك، وفى الباطن هم أصحاب جينات خبيثة يدفعونك دفعًا نحو أذية الناس.

«بديع خيرى» واحد من أصحاب الجينات الأصلية المطاردين بالابتلاء طوال حياتهم، فى الظاهر.. هو «موليير العرب»  شاعر وكاتب كوميدى كبير.. رائد من رواد المسرح الفطاحل، مؤلف وكاتب سيناريو، شريك وصانع مسرح نجيب الريحانى ورفيق عمره، وصديق وصانع روائع فنان الشعب سيد درويش. وفى الباطن تطارده الهموم والأزمات.. يرحل ابنه الفنان عادل خيرى وهو لم يكمل عامه الـ32 مريضًا بتليف الكبد ويترك 3 بنات أكبرهن 6 سنوات.

«بديع خيرى»  فى الظاهر مفيش حد  سعيد وموهوب فى جميع فروع الفن مثله ، فلم تقتصر مواهبه على الكتابة والتأليف شعرًا ومسرحًا وسينما وأغانى لكنه أيضا لحن وغنى، وفى الباطن مافيش حد يعانده الحظ ويطارده الابتلاء مثله.. بيته كان حزينًا وشهد أحداثًا مأساوية كثيرة، ومنها إصابة ابنته الوحيدة بالحمى الشوكية فى طفولتها، مما تسبب فى إعاقتها ومعاناتها الصحية طوال حياتها، كما فقدت زوجته البصر فى نهاية حياتها بسبب مرض السكر... وهو نفسه عانى من مرض السكر  طوال حياته وبترت أصابع قدمه فى أواخر سنوات عمره، مما أعاقه عن الحركة.. وقضى سنوات على كرسى متحرك.. وخطف السكر منه ابنه عادل بعد 7 سنوات فقط من التألق والنجومية والعمل بالفن.

«بديع خيرى» فى الظاهر واحد من أهم كتاب الكوميديا القادرين على إضحاك الناس، وأول من كتب  فيلمًا عربيًا ناطقًا.. يتحدث عن الحارة المصرية بدلًا من الأفلام التى كانت تتحدث عن الطبقة الراقية.. وهو فيلم «العزيمة» أحد أهم الأفلام المصرية.. وفى الباطن قلبه مفعم بالحزن ،تعشش المأساة والكآبة على جدران بيته... يتعاون مع فنان الشعب سيد درويش، ويكتب أشهر أغانى ثورة 1919 ومنها أغنية قوم يا مصرى التى تحوى لومًا شديدًا وتحفيزًا للمصريين حتى يقاوموا المحتل ويفخروا بكونهم مصريين.. ويتحايل على القرارات العسكرية التى تمنع الكتابة عن سعد زغلول والثورة، فيكتب أغنية يا بلح زغلول تحية لسعد زغلول، فيتم  القبض عليه ويدخل السجن .

«بديع خيرى» فى الظاهر يعيش للفن وبالفن.. يكتب ليلًا ونهارًا أغانى ومسرحيات وأشعارًا.. يستمتع بحياة هادئة ناعمة فهو أشهر كتاب عصره وأغناهم.. وفى الباطن مهموم بالسياسة وبقضايا بلده ومستعد لدخول السجن من أجلها.. يصدر مجلة ألف صنف عام 1925، ويكتب فيها الكثير من المقالات والأزجال السياسية.. ويعرض حياته لخطر دائم ويطارده البوليس السياسى والاحتلال. 

«بديع خيرى» فى الظاهر يعيش حياة الترف والثراء وراحة البال.. وفى الباطن لايشغله شىء عن الفن إلا نهضة مصر وطرد الاحتلال الإنجليزى.. يصدر 4 مجلات  على حسابه الشخصى لمحاربة  الاحتلال، وفضحه.. فبعد أن أغلق له الإنجليز  مجلة ألف صنف.. أسس خيرى مجلة «الغول»، وكتب فى الترويسة «هذه المجلة لترهيب الاستعمار» فتم إغلاقها، ثم افتتح مجلة «النهاردة»، وكتب فى الترويسة «المجلة للدفاع عن الدستور»، فأغلقوها  أيضًا، ثم أسس مجلة «مصر الحرة» وكان يستكتب فيها بيرم التونسى والذى كان يرسل مقالاته وأزجاله من المنفى.. وظل  بديع خيرى يرسل له مقابلًا ماديًا لهذه الأعمال حتى بعد إغلاق المجلات ليساعده على المعيشة فى المنفى.

«بديع خيرى» حمل راية الكفاح الوطنى من خلال شعر العامية والمسرح، فهو شاعر ثورة 19 من دون منازع وابن الحركة الوطنية.. كان هو  وسيد درويش يجلسان إلى العمال فى القهاوى  لدفعهم إلى تأسيس النقابات المهنية فهم ممن شكلوا وجدان الثورة والثوار.

تجربة «بديع خيرى» مع الابتلاء، تخبرنا أن خير علاج للابتلاء هو الصمت.. فإنكَ إن شكوت لأحد ،فهو مابين شامت، أوناصح،أو لوام.... الناصح فى الظاهر سيردد كلامًا أجوف.. وفى الباطن لا يملك دفع الابتلاء.. والشامت فى الظاهر سيتعاطف معك.. وفى الباطن سيجدها فرصة للنيل منك وستجد ابتلاءك، مشاعًا وعلى كل لسان.. واللوام فى الظاهر يقدم نفسه كملاك يحمل همك.. وفى الباطن  لن يتوقف عن ترديد: «مش قلت لك» «بس لو كنت سمعت كلامى.. كنت عايز أحميك».. لهذا إذ نزل الابتلاء  بكَ  لا تخبر أحدًا، والتزم الصمت وانتظر الفرج، فإن الفرج آت لا محالة... اجعل رأسك مرفوعاً دائمًا، ولو وقعت فى  ألف مصيبة، فإن الذل يكسر الوجه.. والابتلاء يقصم الظهر.. فظهر مقصوم خير من رأس مكسور.. فهيبتك  تصنع بصمتكَ لا بدفاعكَ عن نفسك.