الأربعاء 24 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
لغة الجينات 54 

لغة الجينات 54 

‏«راحة البال» أعظمُ نعمة ممكن تحصل عليها فى الحياة، لو شعرت بها فأنت تملك كُل شىء، وإذا لم تشعر بها فأنت لا تملك أى شىء، حتى لو كانت الدنيا كلها رهن إشارتك.



«راحة البال» درجة عالية من درجات السعادة والراحة النفسية والاطمئنان لا يعرفها إلا صاحب  الجينات الأصلية، تنعكس آثارها عليه ظاهرا وباطنا، هدوء من الخارج وثقة وقناعة من الداخل، فيمضى فى حياته بمنتهى السعادة، وإن كان لا يملك من حطام الدنيا شيئا.

«صاحب الجينات الخبيثة» يظل طوال عمره يبحث عن راحة البال ولا يجدها.. فى الظاهر يمتلك كل شىء.. وفى الباطن يلهث خلف كل ما ليس فى يده حتى لو لم يضف له شىء... يكذب فى كل التفاصيل.. يرفع راية المظلومية على الدوام.. يوهم من حوله بأنه مستهدف والكل يحاربه.. يوهم نفسه بأنه على صواب.

«راحة البال» لها شروط  ظاهرة وباطنة.. أولها  تجنب مصاحبة  من يمتلك  الجينات الخبيثة من المتذمرين كثيرى الشكوى من كل شىء، التوقف عن الانشغال بالآخرين وتصيد الأخطاء، القناعة بما فى يدك.. التصالح مع النفس والثقة فيمن حولك.. السعى لقضاء حوائج الناس وليس الوقوف فى وجه تحقيق مطالبهم واستغلال سلطتك فى حرمانهم من حقوقهم.

«راحة البال» عند صاحب الجينات الأصلية.. فى الظاهر بعد عن المشاكل وأسبابها.. ترفع عن الصغائر وفى الباطن  نعمةً.. كنز ثمين، صفاء الذهن من التفكير.. شعور بالسكينة والطمأنينة على الدوام.

«الشيخ عبدالفتاح الشعشاعى» واحد من أصحاب الجينات الأصلية التى منًّ المولى عز وجل عليهم بنعمة راحة البال طوال حياتهم.. فى الظاهر أحد أبرز أعلام قُراء القرآن المصريين، عمدة فن التلاوة.. وأول من قرأ القرآن بمكبرات الصوت فى الحرمين الشريفيين.. وفى الباطن منَّ الله عليه بأداء قرآنى فريد، وصوت روحانى عذب خاشع، يثير التأمل والتدبر فى قلوب مُستمعيه.

«الشيخ  الشعشاعى» فى بداياته كون فرقة للتواشيح الدينية وكان فى بطانته الشيخ زكريا أحمد.... فى الظاهر بدأ يتألق ويلمع وأصبح له عشاق بالألوف لكنه فى الباطن لم يجد راحة البال التى يبحث عنها، فالصراعات فى دولة التواشيح لا تتوقف ولا تنتهى... أيضا لم تكن  فرقة التواشيح ترضى طموحه فغامر وألقى بنفسه فى البحر الذى يتصارع فيه العمالقة فى التلاوة، فقرأ فى مأتم سعد زغلول باشا، وعدلى يكن باشا، وثروت باشا، فأصبح الشعشاعى الذى نعرفه الآن.. ورغم تفرغه لتلاوة القرآن الكريم وترك التواشيح، إلا أنه لم ينسَ رفاقه فى الدرب فقرر تخصيص رواتب شهرية لهم حتى وفاتهم.

«الشيخ الشعشاعى» فى الظاهر نجم مشهور يبحث عنه «السميعة» ويطلبه الملك ليقرأ فى قصر عابدين.. وفى الباطن لم يكن يشغله إلا راحة البال ولدرجة أنه رفض طلب الملك بأن يقرأ له فى القصر الملكى لمدة عامين بسبب الإشاعات حول الملك ، وبأنه ينتهى من جلسة القرآن ويذهب إلى الخمر أو لعب القمار، ولما ألح القصر الملكى فى طلبه قال لرئيس الديوان، إنه يريد أن يقرأ القرآن وأن يسمعه عامة الشعب، وأن يتم عمل سرادق فى حديقة القصر يحضره الملك وعامة الشعب ، وبدأ بالفعل إقامة سرادق عابدين، وظل متواجدا أيام الملك وبعد وفاته جاءت الثورة فمنعته، وأعيد مرة أخرى وقت السادات وقرأ فيه الشيخ إبراهيم نجل الشيخ عبدالفتاح الشعشاعى.

«راحة البال» نفسها هى التى منعت الشيخ الشعشاعى من القراءة فى الإذاعة لمدة عام كامل، وكان رده أن الميكروفون حرام، وظل بعيدًا عن الإذاعة، مفضلا راحة باله عن فعل شىء يتشكك فى حرمته إلى أن أصدر الشيخ «الظواهرى» فتوى بعدم حرمانية القراءة فى الميكروفون... فذهب ليشدو بصوته فى الإذاعة المصرية.

«الشيخ الشعشاعى» فى الظاهر كان يتقاضى 200 جنيه فى الليلة الواحدة، وفى الباطن  جاءت إليه إحدى السيدات من بولاق تطالبه بالقراءة فى ليلة مأتم زوجها  تنفيذا لوصيته، وليس معها سوى 50 جنيها، فقام برد المبلغ لها، ونصب الصوان على حسابه، وذهب وقرأ، وبعد ختامه  حمله الناس إلى سيارته. 

«الشيخ الشعشاعى» فى الظاهر أحد أساطين دولة القراءة، وحاربه البعض واتهموه بالإتجار بصوته لأنه يحيى أكثر من مناسبة فى الليلة الواحدة.. وفى الباطن كانت له كرامات كثيرة آخرها يوم وفاته فى 11 نوفمبر 1962 وكانت جنازة شعبية مهيبة، بحضور العديد من الشخصيات العامة، وبعد الصلاة عليه فى مسجد السيدة زينب، خرج المشيعون وحاولوا إدخال النعش فى السيارة إلا أن كل محاولاتهم باءت بالفشل وظل النعش الذى يحمل الجثمان على الأعناق يسير به حاملوه مجبرين حتى مروا من أمام مسجد السيدة عائشة، ثم وصولوا إلى الإمام الشافعى فتوقف،النعش وتم أداء صلاة العصر عليه مرة أخرى، وبعدها سار إلى المقابر بخفة شديدة.

ألم أقل لكم أن «راحة البال» لا يمكن شراؤها بالمناصب أو  بالمال.. ألم أقل لكم إن راحة البال نعمة عظيمة.