الخميس 25 يوليو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
الجائزة الكبرى لشهر رمضان

الجائزة الكبرى لشهر رمضان

وها هى الجائزة الكبرى لشهر رمضان المعظم، تبدو فى مكافأة المولى وجل لعبده الصائم، ثوابان محققان: عاجل وآجل، وهما فى الحقيقة فرحتان مميزتان، وسعادتان تغمران الصائم! وكلتاهما حصيلة الاحتساب والصبر والطاعة لله طوال يوم معاناة وحبس للنفس عن المفطرات والشهوات لله رب العالمين. والسعادة والفرح وجهان لعملة واحدة، يتقرب بها العبد لنيل رضوان الله تعالى، والالتزام بما أمر، والابتعاد عما نهى، وكلما كان الإنسان مدركاً للوقائع ويميز الصحيح من الخطأ فى حياته، يسير وفق أمر الله فَرِحاً بما آتاه الله من فضله.



نعم للصائم فرحتان يفرحهما؛  إذا أفطر فرح بفطره، وإذا لقى ربه فرح بصومه.. فرحٌ لأن الله عز وجل كافأه بعد هذا الحرمان فى النهار بإطعام ورى بدخول المغرب، ففرح بأنه حصل ما كان ممنوعاً، ويفرح بأن الله تعالى أتم له صيام هذا اليوم؛ لأن الذى يقوى على الطاعة هو الله عز وجل، ولذلك الإنسان لو عجز عن إتمام الصيام فى يوم من الأيام وما أطاقه أو سبب له ضررًا، فإن أفطر بعد الظهر أو بعد العصر يحزن حزناً شديداً لضياع هذا اليوم، مع أنه ما ضاع وهو صاحب عذر، ولذلك لا تجد رجلاً قد أفطر بعذر فى رمضان يفرح بدخول المغرب، مثل هذا لا فرحة له.

كان رمضان فرصة شخصية لى للتأمل والموعظة فى سبب الخلق ذاته ، من خلال قصة الوجود الأولى التى تتجدد باستمرار، وتتحرّك بحيوية، لتخاطب وجداننا وعقولنا وفكرنا، باعتبار أنَّها ظلال للقدرة المطلقة التى تدلنا على من خلقها وأوجدها، وأعطاها كلّ هذه العظمة، وكلّ هذا السحر والجمال، وهكذا تلتقى العظمة والسحر والجمال فى الوجود، فى شهادة على سر الخلق وعظمة الخالق .. إنَّه الأسلوب الرائع الذى يربى لنا - ونحن فى رحلة المعرفة - الحس الوجدانى بالروعة، والذوق والعقل الواعى بالأسرار الكبيرة التى تعيش فى نطاق الكون الكبير.

إنَّها الدعوة الواثقة بالحقيقة الكامنة فى كلّ ما فى السَّموات، وفى كلّ ما فى الأرض، التى لا تتطلب من الإنسان إلاَّ أن ينظر ويتأمل ويفكر.. من دون حاجة إلى جهد كبير، أو أخذ وردّ، وهى - فى الوقت ذاته - دعوة إلى الانطلاق فى حركة الفكر نحو التعرّف على أسرار الكون، والاطلاع على القوانين الطبيعية المودعة فيه، من أجل اكتشاف الطريقة التى يستطيع الإنسان الاستفادة منها فى التعامل مع هذه القوانين فى مجالات الحياة المتحرّكة فى أكثر من اتجاه.

نتأمل فى حياتنا التى نعيشها منذ بدأنا رحلة الحياة إلى أن انطلقنا فى النشأة الكاملة... نأكل ونشرب.. ثم نصوم عن كل هذا لمدة شهر كامل.. ونتحرّك ونواجه حاجاتنا الطبيعية التى سخّر اللّه لنا قوى الكون من أجل أن تلبِّيها وتحققها لنا فى كلّ مجال.. ونحس - بعمق - كيف يكون وجود اللّه فى حياتنا، قضيةً تتصل بسرّ الحياة الذى لا نستطيع الانفصال عنه ولو لحظة، لأنَّ ذلك يعنى الانفصال عن معنى الوجود، الذى يتحوّل إلى فرضية تبحث عن أساس لها بين آلاف الاحتمالات.

ونرى أن القرآن الكريم حاول - فى أسلوب الحوار من أجل الإيمان باللّه - أن يطرح الفكرة المضادة، إلى جانب فكرة الإيمان باللّه.. فى نطاق الطريقة العقلية فى التفكير، التى تطرح الفروض المحتملة.. ثمَّ تبدأ عملية النفى والإثبات، لتكون النتيجة فى مصلحة الغرض الأخير الذى يثبت أمام النقد، وذلك هو ما تجسّده لنا الآية الكريمة فى قوله تعالى: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} [الطور: 35].. فالآية الكريمة تطرح الفرضَيْن بأسلوب الاستفهام الإنكارى الذى يعنى رفض الفكرة التى يدور الاستفهام حولها، فالفكرة الأولى مستحيلة، لأنَّ فرض الحدوث وعدم الوجود أساس لحتمية الوجود، لتكون من قبيل واجب الوجود، وهذا يفرض وجود القوّة الخالقة التى تبرّر له وجوده، ما دام فرض الوجود والعدم فيه متساويَيْن، ما يجعل من الضرورى فى عملية الوجود أن نبحث لها عن علّة خارج الذات.

أمّا الفرض الثانى فهو مستحيل أيضًا، لأنَّ خلق الإنسان نفسه يفرض كونه سابقًا لنفسه فى الوجود، فيلزم أن يكون الشىء موجودًا فى حال عدمه، وهو فرض غير معقول، لأنَّ الموجود لا يمكن فرضه معدومًا فى حال وجوده، وبالعكس، لأنَّه تناقض مستحيل.. فيثبت الفرض الثالث.. على أساس هذه المحاكمة العقلية، وهو أن يكون اللّه هو خالق الإنسان، إنَّه الأسلوب الذى ينطلق من الحكمة الرائعة عندما يُفاجئ الخصم بالحقيقة التى ينكرها، وهى تتحدّاه من خلال قناعاته الذاتية التى تحيط به من كلّ جانب دون أن يستطيع منها فكاكًا، أو يجد للهروب منها سبيلا.

كانت تلكم بعض التأملات الرمضانية فى أوقات السحر والهدوء والاعتكاف مع النفس دون صخب أو ضجيج، لندرك الحقيقة الدامغة.. والدليل الذى لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.. وهو أن للكون خالق.. وأن هذا الخالق هو من سوف يُحاكِم جميع خلقه { يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ ولا بَنُونَ * إلّا مَن أتى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيم} [الشعراء: 88 – 89 ].  وبالإخلاص .. تحيا مصر