الرقعة الخضراء.. والشفاء من الوباء
ما أحوجنا إلى البهجة فى حياتنا وسط خضم الأحداث المتسارعة من حولنا، التى تجرف من حالتنا النفسية وتهوى بالمعنويات، فهذه دعوة ونداء من القلب .. بأن نجعل الحياة من حولنا «خضراء» بلون الأمل والحنان؛ فمع كل ورقة خضراء تنمو لكل نبات تزرعه؛ تمنحك أملاً فى الحياة والنماء، وتشعرك بالعطاء.. أحد أنبل المشاعر الإنسانية! فهو يجعلك تشعر وكأنك فى أحضان الطبيعة مهما ضاقت رقعته، ولو على حافة شرفة منزلك، فهى تضفى الرونق ـ بعيدًا عن الرونق الذى ذهب إليه خيالك ـ والمظهر الجذاب لمنزلك، وتمنح النظر الارتياح الذى ينعكس على خلايا مراكز الإشباع المعنوى داخل الروح ؛ فتعمل على علاج الضيق والاكتئاب وتبث الهدوء والسكينة، ولهذا أخبرنا الله سبحانه وتعالى فى كتابه العزيز بأن المؤمنين فى جنان النعيم فى سورة الإنسان الآية (21): (عَالِيَهُمْ ثِيَأبُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَأوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَأبًا طَهُورًا).
وقال جل وعلا فى سورة الكهف الآية (31)(أُوْلَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهِمُ الْانْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَأوِرَ مِن ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَأبًا خُضْرًا مِّن سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُّتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَأبُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا).
والمدهش أن يأتى علماء النفس بعد أربعة عشر قرنًا من الزمان ليؤكدوا هذه الحقيقة، فتجاربهم أثبتت أن اللون يشعر بالبرودة أو الحرارة؛ ويمنح السرور أو الكآبة ويؤثر فى تكوين شخصية الإنسان ونظرته تجاه الحياة والبشر من حوله، وبسبب تأثير اللون فى أعماق الروح الإنسانية؛ فإن المراكز العلاجية أصبحت تستشير الأخصائيين لاقتراح ألوان الجدران وملابس هيئة التمريض التى تساعد على شفاء المرضى؛ ويتوصلون إلى أن اللون الذى يبعث على السعادة وحب الحياة والبهجة هو اللون «الأخضر»؛ فأصبح اللون المفضل فى غرف العمليات الجراحية وغرف الممرضين والممرضات.
ومن الطريف أن نذكر ـ نقلاً عن المصادر العالمية ـ التجربة التى تمت فى لندن على جسر (بلاك فرايار) الذى يعرف بـ «جسر الانتحار» لأن حوادث الانتحار غالبا ما تتم من فوقه حيث « تم تغيير لونه الأغبر القاتم إلى اللون الأخضر الجميل مما سبب انخفاض حوادث الانتحار بشكل ملحوظ، فاللون الأخضر يريح البصر لأن الساحة البصرية له أصغر من الساحات البصرية لبقية الألوان، كما أن طول موجته وسطى فليست بالطويلة كاللون الأحمر ولا بالقصيرة كالأزرق».
وكل رجائى ألا أجد اتهامًا موجهًا إلى بالرومانسية المفرطة الحالمة؛ عند الكتابة فى أعمدة الصفحات العلمية المتخصصة، فجوهر الحياة السوية ومحاولة الوصول بها إلى مايقرب من الكمال ؛ يستلزم الابتعاد عن المقولات الجافة المُعادة والمكررة بما يشبه النصح والإرشاد؛ واتخاذنا موقف المعلم والمرشد والناصح الأمين ـ فهذا ليس الهدف ولا المقصدـ، فمما لاشك فيه أن الرقعة الخضراء؛ تُعد عنصرًا ووسيلة مهمة لإعادة التوازن فى البيئة التى تشهد انتهاكًا صارخًا فى مواردها الطبيعية، نتيجة موجة التمدين التى تجتاح العالم، علاوة على نتاج التكنولوجيا الحديثة وما خلفته من أثار سلبية على الكائنات الحية، وعلى الإنسان على وجه الخصوص، الذى ظل يبحث عن أجواء أكثر نقاوة، إلا أن كثيرًا من الدول المتقدمة أدركت مخاطر جرف الغطاء النباتى فى الإخلال بتوازن الطبيعة والبيئة، الأمر الذى جعلهم يتوجهون إلى استزراع الأراضى من خلال إحياء التربة مجددًا؛ وهذه دعوة جادة إلى السادة المسئولين بالمحليات والمحافظات ؛لتفرد وتخصِّص مساحات واسعة وممتدة من الأشجاروالشجيرات فى تناغم جمالى بديع، فما أن تجوب شوارع الأحياء السكنية حتى تجد نفسك فى حديقة غنَّاء، ممتدة على طول الشوارع المقابلة للمساكن، التى التحفت واجهاتها بمساحة ممتدة من الأشجار وارفة الظلال والمزدانة بالزهور التى عادة ما تبدأ فى الكشف عن روعتها بثوبها القشيب فى فصل الربيع، وهذه السلسلة الخضراء من النباتات لابد أن تسهم فى منح المدن المنظر الحضارى الأخاذ اللافت للأنظار؛ والباعث على غرس بذور التفاؤل والأمل فى النفوس.
فالمحبذ أن تكون «ثقافة التشجير» هى من تحكُم تفكير مهندسى الأحياء بالمحافظات؛ فيقومون بانتقاء هذه الشجيرات بعناية بعد دراسة متأنية لجغرافيا الأحياء وكثافتها السكانية ومتطلباتها؛ بحيث تقوم بدورها ووظيفتها على أكمل وجه من حيث منع الأتربة والغباروالدخان الأسود المنبعث من المركبات من أن تصل إلى المنازل، وامتصاص موجات الضوضاء التى قد تصدر عن السيارات وأبواقها المزعجة، كما تعمل على تجدد الهواء، وتجعله أكثر نقاءً وصفاءً، كما أنها تتميز بأوراق مقاومة لالتصاق الأتربة والغبار، فهى دائمًا خضراء بهية متجددة، فقد أصبح تشجير الضواحى والأحياء السكنية، نقطة حيوية ومهمة فى عملية تجميل المدن، وجعل السكان أكثر قدرة على الاستمتاع بالأجواء الخارجية وممارسة أنشطتهم الرياضية دون مشاكل أو إزعاج، متخذة التصميم الهندسى البسيط للسيرعلى وتيرة واحدة فى تزيين وتجميل شوارع الأحياء السكنية، حيث تزرع الشجيرات الورقية القابلة للتشكيل والمزهرة طوال العام، مع وجود مساحات خضراء لا بأس بها ؛ وإنشاء استراحات بسيطة للجلوس عليها بما يحقق استمتاع المرء بالطبيعة من حوله ؛ وبخاصة أطفالنا والنشء حتى يترعرعوا فى رحاب البساتين الخضراء والزهور المتفتحة ويتعلموا من منظومة الجمال الربانى الإحساس بالجمال والرقى الإنسانى ورقة الشعور وثراء الوجدان بالمشاعر النبيلة التى تبثها الحدائق الغناء فى النفوس فتملأها بالأمل والسرور وتكسيها اﻷلق والبهاء! فما مررنا به مؤخرا ينبهنا إلى أهمية الصحة النفسية للإنسان فى مواجهة الأمراض والأوبئة، فيروس كورونا مازال لنا بالمرصاد فلا ينبغى أن نقصر فى حق أنفسنا، فلنتسلح بمعنويات قوية وضع الله دواءها فى كل أخضر بستانى حدائقى حولنا فى مظاهر الطبيعة فقد خلق الداء وأنعم علينا بالدواء فهو ارحم الراحمين!