السبت 1 يونيو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
لغة الجينات 56

لغة الجينات 56

كل شىء فى حياتنا معلق بالظاهر والباطن، الظاهر ندرك به الأشياء المادية المحسوسة، والباطن نور ندرك به الأشياء المعنوية الغيبية.



«البصر» ظاهر و«البصيرة» باطن.. البصيرة معنى، والبصر حس.. والبصيرة لا يعرفها أو يملكها إلا صاحب الجينات الأصلية، بها يدرك  كل شىء، فهى التى تبصر وتسمع وتحكى وتشمّ وتذوق... بها يدرك المعانى.

«البصر» ظاهر  يدرك به الإنسان  الأشياء المادّية المحسوسة، والبصيرة باطن ، تعنى أن يحكّم الإنسان عقله فى كلِّ الأُمور، فلا يكتفى بظاهر الأشياء، بل ينظر إلى بواطنها عندما يقرأ، أو عندما يسمع، أو عندما يرى كل ما يحدث  حوله.

صاحب الجينات الأصلية يملك «بصيرة» تجعله لا يُخدع بجمالات الصُّور، ولا بحلو الكلام، ولا بزخارف الدُّنيا.. «بصيرة» تجعله بسهولة يفرق بين الحق والباطل، الصدق والكذب.

 «البصيرة» تكشف - لمن يمتلكها - حقائق الحياة وحقائق الناس وحقائق الأحداث، تكشف له نوايا أصحاب الجينات الخبيثة وخططهم المستترة والظاهرة، و كأنه يقرأ من كتاب مفتوح.

«الشيخ طه الفشنى» واحد من أصحاب الجينات الأصيلة ممن امتلكوا نعمة البصيرة طوال حياتهم.. فى الظاهر قارئ شهير للقرآن ومنشد «يا أيها المختار من خير الورى.. خُلقا وخَلقا فى الكمال توحدا..نادت بك الرسل الكرام فبشرت وملائك الرحمن خلفك سجدا».. وفى الباطن بصيرته تمنعه من الاستمرار فى الطريق الذى بدأه فور وصوله القاهرة قادما من بلده «الفشن» ببنى سويف، فبعد الاتفاق مع شركة اسطوانات يونانية شهيرة وقتها على أن يعمل مطربا وتسجيل اسطوانتين عليهما عدة طقاطيق وشارك كمطرب مع أم كلثوم وعبدالوهاب فى إحياء حفل زواج الملك فاروق، إلا أنه سرعان ما عاد واعتذر عن الغناء قائلا: «أنا مرتاح لقراءة القرآن أما الغناء فلا أجدنى ميسرا له»..

الشيخ طه الفشنى فى الظاهر صييت من الطراز الأول والأوحد، صييت جعل «العندليب» عبدالحليم حافظ عندما سئل فى الإذاعة: «ما الذى كنت تتمناه فى بداية حياتك، قبل الاتجاه للغناء وشهرتك الواسعة؟»، فأجاب: «كان نفسى أبقى صييت يمتلك صوت الشيخ طه الفشنى».. لكن بصيرة الشيخ طه الفشنى  فى الباطن اختارت طريقه ومستقبله  وهو لا يزال  فى مفترق الطرق، أقام بجوار سيدنا الحسين وانهالت عليه الكرامات.. فى الظاهر كان شابا صوته جميلا مغرما بالتواجد فى مسجد سيدنا الحسين، دائم التردد على حلقات الإنشاد الدينى والذكر، إلى أن نبغ وأصبح المؤذن الأول للمسجد.. وفى الباطن كان القدر يرسم طريقه المحدد، ففى  الاحتفال السنوى بمولد الحسين، كان سعيد لطفى رئيس الإذاعة، متواجدا داخل القاعة الكبرى، وطلب الجمهور من الشيخ «طه الفشنى»  قراءة ما تيسر من القرآن الكريم فرفض كونه ليس معتمدا للقراءة فى تلك الليلة ، وإذا بأحد موظفى الأوقاف ينقل الأمر إلى رئيس الإذاعة فاستجاب، وبالفعل ذهب ذلك الرجل إلى الشيخ طه وقال له «اتفضل رئيس الإذاعة وافق إنك تقرأ خمس دقائق ولكن لا تطيل يا شيخ»، وصعد الشيخ طه إلى مقعد القراء، وبدأ فى قراءة القرآن فأنبهر الحضور بصوته  وطريقته ، وإذا بنفس الرجل الذى كان قد طلب منه ألا يطيل عن خمس دقائق يأتيه  مرة أخرى ويهمس فى أذنه قائلا «أكمل ولا تختم يا شيخ، رئيس الإذاعة معجب  بصوتك»، وكانت هذه بداية دخوله الإذاعة المصرية بشكل رسمى فى عام 1937.

«بصيرة الشيخ طه الفشنى» جعلته لا يوافق على إحياء «ليلة الإذاعة»، وكانوا بيذيعوا فيها أول كل شهر عربى تواشيح وقصائد دينية لمدة ساعة إلا ربع بصوت الشيخ «على محمود»، الذى باغته التعب والإجهاد فى ليلة منها، فاتصل مسئولو الإذاعة بالشيخ الفشنى  ليؤدى هذه الليلة.. فرفض  وبعد إلحاح توجه  للشيخ على محمود ليستأذنه فقال له: «روح يا طه وربنا يفتحها عليك».

«بصيرة الشيخ طه الفشنى» هى التى أنقذته من احتباس صوته وقتها فى الظاهر لم يعد قادرا على الكلام مطلقا، مما اضطره إلى التوقف عن القراءة والجلوس فى المنزل، ولم يفلح الأطباء فى مساعدته لاستعادة صوته، ثروته فى الدنيا وطريقه إلى الخير، قبلها وفى بداية عام 1948 بدأ صوته يضعف تدريجيا حتى بات لا يستطيع الكلام، ولكن فى الباطن بصيرته جعلته متمسكا بالله وقراءته القرآن الكريم يوميا مع نفسه فى خلوة له داخل المنزل.

«بصيرة الشيخ طه الفشنى» أهدته إلى حل كان فيه الشفاء التام، قرر السفر لزيارة الحبيب المصطفى، وقال لأولاده بصوت لا يظهر منه سوى تحريك الشفاة «سأسافر إلى حبيبى وإن شاء الله خير»، وقد كان ذلك موافقا لموسم الحج، فكانت فرصة للحج والاستزادة من بركة زيارة النبى عليه الصلاة والسلام، وبالفعل سافر إلى الأراضى المقدسة وعاد له صوته أمام قبر النبى صلى الله عليه وسلم وفوجىء الناس به يؤذن العصر بصوته الجميل.

ألم أقل لكم أن البصيرة منحة ربانية.. تكشف لك الطريق والنوايا.. والناس من حولك.. اعلم إن الله عز وجل إذا أحب عبدًا كشف له حقيقة الناس من حوله، فالحمد لله الذى نطيعه بصفاء النوايا فيجازينا بنور البصيرة.