الأحد 21 يوليو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
كيف حققت مصر المهمة المستحيلة؟

الشعب الفلسطينى عانى طويلا من المزايدين الذين طالما استخدموه طوعا أو كرها لحجز أماكن مستعارة وسط الإقليم.. لكن مصر صاحبة المكان الأصيل حجزت مكانتها فى قلب فلسطين

كيف حققت مصر المهمة المستحيلة؟

على المقهى الصغير بميدان عابدين، فى تلك الساحة المطلة على القصر العريق، الذي يقف شامخًا وشاهدًا على تاريخ مصر الحديث وما مر بالبلاد والعباد، جلست كعادتى مع صديقى «المعارض» نتناول «خمسينة شاى» قبل ساعة من تطبيق غلق المحال والمقاهى بسبب جائحة كورونا، نسترق تلك الساعة اليومية فى هذه الأجواء التاريخية الشعبية التى تمتلئ ساحتها وحديقتها بعائلات خرجت تبحث عن نسمة صيف يومية.



أثناء ذلك، كان أن نقلت الشاشة الوحيدة الموجودة فى المقهى صورًا للرئيس السيسى داخل غزة وسط تقارير إخبارية، تتحدث عن زيارة وفد أمنى رفيع المستوى برئاسة الوزير عباس كامل - مدير المخابرات العامة - مبعوثًا من الرئيس إلى الأراضى المحتلة وقطاع غزة والضفة للعمل على تثبيت هدنة وقف إطلاق النار، بعد أن نجحت القاهرة فى وقف نزيف الدم الفلسطينى وإلزام كل الأطراف بوقف العمليات العسكرية من الجانبين، ومن ثم البناء على الإنجاز المتحقق لدفع عملية السلام التى كنا نتصور أنها ماتت إكلينيكًا حتى نفخت فيها مصر من روحها فعادت لها الحياة مجددًا.

 صديقى المعروف بمعارضته الشديدة، وجدته مندهشًا ومتنبهًا، قرأت فى عينيه تساؤلات قبل أن ينطق بها، كيف نجحت الإدارة المصرية فى الاستدارة على ما يحيط بها من مخاطر ومؤامرات وتُحول هذه المحن إلى منح، وأن تطفئ الحزام النارى الملتف حول حدودها وتستطيع تبريده وأن تتمدد خارجه!

■ ■ ■

سريعًا أبدى صديقى المعارض اندهاشه من أداء الإدارة المصرية فى الملفات الخارجية، وأن الأسابيع الأخيرة شهدت طفرة ملموسة لا ينكرها إلا جاحد حول استعادة مصر مكانتها ونفوذها فى الإقليم، بل وتحولت القاهرة إلى قبلة تقام لها الصلوات السياسية من الشرق والغرب شمالًا وجنوبًا، كما لو أن العالم تذكر أن هنا كعبة السياسة، وعلى الجميع أن يراجع حساباته ويعيد تموضعه حول القوة الأكبر فى الإقليم.

صديقى المعارض كغيره من نفس فصيله الفكرى، ظل لسنوات يمارس المكايدة السياسية وليس المعارضة، غافلًا متغافلًا أن مصر لم تتراجع عن أدوارها عمدًا، بل غُيبت وحاولوا تقزيمها وإغراقها فى مشاكلها الداخلية منذ أحداث يناير 2011، ثم تولى الإخوان حكم البلاد. لتنتفض فى ثورة 30 يونيو المجيدة، وتقرر تراجعًا تكتيكيًا تتمكن خلاله من التقاط أنفاسها المقطوعة لسنوات، وأن تستعيد قوتها الشاملة عبر أكبر عملية بناء دولة حديثة فى التاريخ المعاصر. القاهرة أدركت أن الارتكان على الإرث التاريخى والجغرافيا السياسية لم يعودا كافيين لتستعيد مكانتها، وأن الأدوار المنوطة بها لقيادة المنطقة تستدعى بالضروة النظر إلى الداخل المهترئ وإعادة استكمال بناء دولة عصرية مؤسسية تستند إلى قوة عسكرية باطشة، واقتصاد هو الأسرع والأكبر نموًا وتنوعًا فى المنطقة، وظهير إعلامى وطنى يجيد استخدام أدوات القوى الناعمة، وجبهة داخلية موحدة ومستقرة، ومؤسسات دستورية راسخة تؤسس للحكم المؤسسى للدولة.

■ ■ ■

 القاهرة فعليًا لم تغب، كلما حاولوا تغييبها كانت تزداد حضورًا، الجميع شعر أن هذا الفراغ السياسى فى المنطقة هو قدر مصر أن تشغله، وأن محاولات التقارب التركية مع القاهرة، ومن بعدها قطر، ثم تصحيح الولايات المتحدة الأمريكية مسار علاقتها مع مصر والثناء على دورها فى إنهاء الأزمة الأخيرة بين المحتل الإسرائيلى وفلسطين، وكيفية أن تطرح نفسها كموضع ثقة لكل الأطراف هو جهد وحصاد 7 سنوات من العمل الشاق داخليًا وخارجيًا، لرجال ظل لم يتصدروا الشاشات، وإنما عملوا فى صمت خلف قيادة سياسية حكيمة جعلت صديقى المعارض يقول لأول مرة «أنا منبهر».

■ ■ ■

فى قطاع غزة توارت العمارات خلف صورة الرئيس عبدالفتاح السيسى بعدما نجحت مصر فى إتمام المهمة المستحيلة بحقن دماء الأشقاء ووقف تبادل إطلاق النار برعاية مصرية، بل والقفز إلى الأمام لتثبيت الهدنة ومن ثم إعادة إعمار غزة.

 ■ ■ ■

من جبال طوروس شمالًا إلى مضيق باب المندب جنوبًا، يمتد مسرح عمليات الأمن القومى المصرى لا ينفصل عن حماية تفاصيل الأمن العربى، بطول هذا المسرح وعرضه تنطلق دبلوماسية المعلومات الرشيقة تحكمها منظومة معقدة تتجمع خيوطها فى قلب القاهرة، لا يمكن فض تشابكاتها وفك طلاسمها إلا داخل معامل الوطنية المصرية.

■ ■ ■

من أرشيف الوطنية تتدفق المعلومات والحقائق لتنساب إلى مفاصل الدولة ومؤسساتها فتربطها جميعًا بمصالح عليا لا تعرف سوى أمن وسلامة هذا الوطن، ومن أرشيف الوطنية المصرية تستمد الملفات العربية بصيرتها، فتنير محيطها الإقليمى وسط ظلام الأطماع والمؤامرات التى لا تكف عن استهداف الشعوب العربية.

قاعدة سياسية استقرت بأنه، إذا طفت القضية الفلسطينية على سطح الاهتمامات المصرية فهى دلالة دامغة على عودة القاهرة لقيادة الإقليم، من هنا يمكن البناء أن التحرك المصرى لوقف إطلاق النار بين الجانبين «المقاومة الفلسطينية ـ دولة إسرائيل» وحقن دماء الأشقاء، جاء على أولويات الأجندة الرئاسية المصرية، فالرئيس السيسى الذى كلف ووجه وأدار هذه العملية تحت قيادته وعبر رجاله إشارة لا تخلو من دلالات التقطتها الولايات المتحدة الأمريكية التى تفهمت أن الفراغ الذى خلّفته فى الشرق الأوسط لا يمكن لعاصمة أن تشغله سوى القاهرة.

 من تل أبيب إلى الضفة وصولًا إلى غزة، تحرك الوفد المصرى بتوجيهات القيادة السياسية، يحمل الرؤية المصرية لإحياء المسار السياسى لعملية السلام عبر الوسيط المصرى النزيه.. على أنغام «تسلم الأيادى» وتحت عناق الأعلام المصرية والفلسطينية دلف رئيس المخابرات المصرى للقاء الفصائل الفلسطينية مدللًا على ما يلى:

■ القاهرة تقود الشرق الأوسط.

■ مصر استردت مكانتها وأعادت الحياة للقضية الفلسطينية ولن يسمح باختطافها مجددًا.

 ■ القاهرة تُسخر إمكانياتها وعلاقاتها مع أطراف الأزمة للاستثمار فى السلام وتوفير حياة كريمة للإخوة فى فلسطين.

■ القاهرة تمارس برجماتية سياسية تساعدها على إعلاء المصالح العليا للأمن القومى المصرى والعربى وعدم التوقف عند الشعارات والمتاجرة بالقضية.

■ مصر بلد أفعال وليست مجرد أقوال.

■ مصر تعيد صياغة علاقتها مع الشريك الأمريكى وفق معطيات المصالح المتبادلة «مشاركة لا مغالبة».

■ مصر هى ضامن استقرار المنطقة والنموذج الأمثل لمفهوم الدولة الوطنية.

■ على الجميع أن يراجع حساباته فى التعامل مع الوضع الإقليمى الجديد الذى تقوده القاهرة وأن يعيد تموضعه حولها.

■ إعلان وفاة صفقة القرن.

مصر التى تحكمها مكانتها وتاريخها لم تكن حركتها انغلاقًا على ذاتها أو دورانها فى محيطها المحلى بل انفتاح وفتوح على العالم أكمل. مصر التى تحملت آلامًا ودماءً زكية لم تحكمها لحظة دوافع انتقامية بل راحت تتحرك بقوة وقود وطاقة المسئولية الوطنية مترفعة على آلامها ومُصرة على آمالها.

بهذا الحجم من الكبرياء، راح الرجال المكلفون من الرئيس السيسى إلى قطاع غزة يمدون يد العفو والصفح والعون لمن امتدت يده يومًا بالأذى لقلب الوطن، أيادى الدولة المصرية امتدت لتضمد جراح فلسطين.

■ ■ ■

 على أرض غزة نزلت مصر بعظمتها فى كل بيت فلسطينى، على أرض غزة التفت الأطراف حول مصر التى لم تزايد ساعة على القضية الفلسطينية أو تستخدمها، بل قضت سنواتها ودماءها لخدمة القضية ووحدة أبنائها، فالشعب الفلسطينى عانى طويلًا من المزايدين الذين طالما استخدموه طوعًا وكرهًا لحجز أماكن مستعارة وسط الإقليم، لكن مصر صاحبة المكان الأصيل حجزت مكانتها فى قلب فلسطين.