الخميس 25 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
لغة الجينات 59

لغة الجينات 59

الإعجاب الزايد بالنفس.. مرض وصفة من أهم صفات أصحاب الجينات الخبيثة  !! فى الظاهر ثقة وفى الباطن تجاوز فى تقدير الذات.. خيال مريض يدفع  الشخص  لمناطق أنه  فوق البشر .. ملهم وموهوب .. ينتقص من قدر الآخرين، يرى نفسه دائمًا أعلى وأفضل منهم، وبخاصة فى الجزئية المتضخمة عنده سواء كانت فى حسب أو نسب أو مال، أو ذكاء، أو منصب.. يزكى هذا الإحساس ويضخمه مديح زائف.. تهويلًا مبالغًا فيه.. تدليسًا مسفًا من أصحاب جينات أكثر لؤمًا وخباثة.



أما «التواضع» فهو صفة من أجملّ صفات أصحاب الجينات الأصلية ..فى الظاهروالباطن يدل على طهارة النفس، ويدفع إلى المودة والمحبة والمساواة، وينشر الثقة والترابط الإنسانى، ويمحو الحسد والبغض والكراهية من قلوب الناس.. لكن حتى هذه الصفة لها شروط.. نعم فهناك تواضع مذموم.. تواضع ينقلك إلى خانة أصحاب الجينات الخبيثة ..هو تواضع الإنسان لشخص طمعًا فيما يمتلكه من مال أو سلطان.

«تواضع» يجعلك تقبل الهوان وترضى بأن تهدر حقوقك.. تصمت على الظلم  والقهر من دون أن تتحرك لتسترد حقوقك وتنال كرامتك.

الإنسان المتواضع لا يقلل من شأن نفسه ولو على سبيل الفكاهة، كى يستجلب شفقة الآخرين أو يكسب رضاهم.. بل تراه محتفظاً بوقاره، عزيز النفس.. يبتعد عن كل ما يقلل من قيمته.

«يحيى حقى» واحد من أصحاب الجينات الأصلية الذين لم تصبهم النعرة الكدابة ولا الإفتتان بالنفس.. ظل طوال حياته متواضعًا معتزًا بكرامته وبنفسه وآرائه حتى لو خسر الدنيا.

«يحيى حقى» فى الظاهر أديب كبير أتاح له عمله فى السلك الدبلوماسى الإقامة فى باريس.. وفى الباطن ظل محتفظًا بإخلاق ابن السيدة زينب المتواضع المحب للجميع.. عزة نفسه وكرامته أهم عنده من كل المناصب.

«حقى « عانى كثيرًا من أصحاب الجينات الخبيثة المفتونين بالتطبيل ويقبلون الهوان والذل.. عانى منهم لدرجة أن مجرد وجوده فى لقاء «سب» فيه شخص مشهور الرئيس عبدالناصر ولم يعلق أو يرد  يحيى حقى وكان ذلك  كفيلًا بالتنكيل والإطاحة به من منصبه.

الدكتور ثروت عكاشة فى كتابه «مذكراتى فى السياسة والثقافة» كشف القصة كاملة  قائلا‏: ‏«لم يكن مضى على تعيينى وزيرًا أكثر من شهرين عندما اتصل بى سكرتير رئيس الجمهورية يدعونى إلى لقاء عاجل مع الرئيس عبدالناصر الذى ما إن لقيته حتى طلب منى الاستماع إلى شريط صوتى مسجل لمجموعة من الأشخاص انهالوا على شخص الرئيس بالشتائم البذيئة ناعتين إياه بأحط الصفات‏،‏ وسألته مندهشًا عمن يكونون،‏ فذكر لى اسم أحد الوزراء واسم أديب رائد مرموق‏،‏ وأنه استغنى عن خدمات الوزير‏،‏ وأمر باعتقال الأديب..  ولما سألته عن الغرض من دعوتى للاستماع إلى ذلك التسجيل،‏ قال إن يحيى حقى رئيس مصلحة الفنون كان موجودًا معهم ويتعين إحالته إلى المعاش‏،‏ فبادرته بقولى‏:‏ لكن الواضح من الشريط الصوتى أنه لم يشارك فى هذا السباب،‏ وهو رجل مشهود له بعفة اللسان ودماثة الخلق‏،‏ فضلًا عن أنه أديب مرموق ومحبوب‏،‏ وتوقيع العقاب على هذا النحو سوف يكون له أثر سيئ فى أوساط المثقفين وعامة الشعب على السواء‏،‏ فقال‏:‏ ولكنه كان موجودًا ولم يعترض‏،‏ وهذا يكفى ،‏ فناشدته أن يترك الأمر لى حتى أعالجه بأسلوب مناسب‏،‏ فوافق‏‏ مقتنعًا‏، بعد إلحاح‏؛ أسندت إلى يحيى حقى الإشراف على مركز تدريب العاملين بالوزارة‏،‏ كما أسندت إليه بجوار ذلك منصبًا مهمًا بدار الكتب‏، ثم رئاسة تحرير مجلة المجلة حتى لا يشعر بغربة عن عالمه فى مجال الفكر والأدب والفن،‏ فقبل منى ما عرضته عليه بدماثته المعهودة‏،‏ وطبعًا كان ذلك كله بعد إعفائه من منصبه كمدير لمصلحة الفنون.

«يحيى حقى « تقبل أن يبعد عن وظيفته التى يحبها بذنب لم يرتكبه.. فى الظاهر كان يمكن أن يطلب لقاء مع عبدالناصر ويعتذر أو حتى يبرر عدم الرد.. لكنه فى الباطن فضل الاحتفاظ بكرامته وعزة نفسه فهو لم يخطئ.

«يحيى حقى» فى الظاهر أديب كبير ومفكر ومثقف من طراز فريد يعيش فى أجمل مدن الدنيا ويشغل منصبًا دبلوماسيًا كبيرًا وفى الباطن ينتصر للحب ويتزوج من أحبها فى باريس ويقدم استقالته من عمله الدبلوماسى  وفقًا للقانون الذى يمنع رجال السلك الدبلوماسى من الزواج بأجنبيات،مفضلًا الحب على المنصب.

«يحيى حقى» متواضع كبير، فى الظاهر وكما قال عنه رجاء النقاش : « تصورت أنه رجل بلا عبقرية ولا نبوغ، لكن المظهر خادع، ولا يدل على أعماق الرجل» ففى الباطن  تغلى أعماقه كالبركان بالفكر والفن، .. محب للإنسان، متعاطف معه، قادر على فهمه، يبحث عن الأشياء الأساسية فى الفن والحياة، ولا يهتم بالأشياء الثانوية، لذلك لم يدخل معارك أدبية، ولم يشتبك فى مناقشات حادة، وهو لا يهتم بالسياسة، وإنما يهتم بالحضارة.

«تواضع يحيى حقى» وأخلاق ابن السيدة زينب دفعته للاعتذار للمصريين قبل رحيله بعامين تقريبًا عما ظن أنه انتقاد لاذع فى «قنديل أم هاشم».

وفى حوار مع مجلة الإذاعة والتليفزيون قال يحيى حقى عن نفسه‏:‏ إننى الآن عندما أعيد قراءة مقاطع مما كتبته فى قنديل أم هاشم أقول إننى كنت قليل الأدب وكنت بذيئًا فعندما أقول عن الناس إنهم يسيرون كالقطيع‏،‏ فليس فيهم من يسأل أو يثور‏؛‏ ففى مثل هذا الكلام بذاءة شديدة ولابد من الاعتذار عنها‏.‏‏

احذر من أصحاب الجينات الخبيثة.. واحذر من مدح الآخرين دون وجه حق.. فما بين الثناء المنصف والتطبيل شعرة.

اعلم أن المدح عندما يكون زائفًا.. وتهويلًا مبالغًا فيه، بنسب الإنجاز والفضل لغير أهله.. فإنه عندئذ يأخذ شكل التهريج الممقوت، والتطبيل المقرف، الذى ينبغى أن تترفع عنه.