
د. طارق الغنام
مقابر.. ولكن!!
أدركت الدولة فى وقت مبكر بعد قيام ثورة 30 يونيو أهمية التصدى لمشكلة العشوائيات لما لها من انعكاسات اجتماعية وأمنية واقتصادية تهدد أمن واستقرار المجتمع، خاصة أن هذه المشكلة أخذت تتعاظم خلال العقود الثلاثة الماضية، نتيجة للفساد التنظيمى والإدارى حتى أصبحت من القضايا الملحة التى تحتاج إلى مواجهة شاملة، فبذلت الدولة جهوداً كبيرة فى ملف تطوير العشوائيات من خلال توفير وحدات سكنية بديلة وتوزيعها على سكان المناطق العشوائية، وانتهت فى الآونة الأخيرة من تطوير90% من المناطق العشوائية الخطرة.
ولكن فى خضم الجهود التى تبذلها الدولة لمواجهة العشوائيات، مازال هناك العديد ممن يتخذ مراقد الموتى بالمقابر مأوى له، إما لضيق الحال واحتياجه لمأوى وعدم قدرته على تدبير سكن بديل ملائم له، وإما لأسباب أخرى كالاعتياد على التملص من الالتزام بسداد أى مستحقات مالية لقاء السكن، أو لاتخاذ المقابر وكرًا للقيام بأعمال غير مشروعة كالبلطجة والسرقة وتجارة المخدرات أو لابتزاز أصحاب المقابر بالمنازعة على حيازتها، أو لاستغلال المقابر الأثرية، أو لاتخاذ المقابر مخزن مجانى لتجارته، أو لعقد صفقات مشبوهة بالمقابر.. ولكن المشكلة الحقيقية أن هذه الظاهرة والتى بدأت تظهر بوادرها فى فترة السبعينيات، وتحاول الدولة التصدى لها والحد من آثارها، هناك من يحاول تقنينها وتهيئة استمرارها، استنداً إلى قانون التصالح فى مخالفات البناء الذى رأى البعض أن أحكامه تسرى آثاره على المقابر، ما شجع ممن قام بتعديل مبانى المقابر- وذلك بتحويل أجزاء منها إلى غرف صالحة للسكنى بدون الحصول على ترخيص - إلى الإسراع لتجاوز تلك المخالفة بالتصالح، ضاربا بعرض الحائط أحكام القانون وما استقر عليه القضاء من أن الجبانات - بحسب الأصل - مقامة على أراضى أملاك الدولة خصصت لحفظ رفات الموتى، وأنها لا تفقد صفتها العامة بإقامة مسكن على جزء منها، فضلاً عن مخالفة قانون التصالح فى مخالفات البناء الذى يحظر التصالح فى مخالفات البناء على الأراضى المملوكة للدولة.
ولكن على كل حال نعتقد أن هذه الظاهرة آخذة فى الانحصار بفضل جهود الدولة التى أخذت على عاتقها التصدى لهذا الواقع الأليم الذى يبعث على الأسى، فنجدها تقوم بإزالة العديد من الأسواق العشوائية داخل المقابر والتى كانت مقصداً للخارجين عن القانون، فضلاً عن تسيير الحملات الأمنية الدءوبة لحفظ الأمن وإلقاء القبض على الهاربين من تنفيذ الأحكام القضائية.
هذا وقد نرى قريباً مشروعاً قومياً للقضاء على هذه الظاهرة البغيضة التى تؤثر سلباً على صورة الدولة أمام العالم.. لذا قد يُرى عند وضع هذا المشروع إعادة النظر فى المناطق التى تشغلها المقابر والتى باتت قريبة جداً من المناطق السكانية بحكم التطور العمرانى بما يتعارض مع الاشتراطات الصحية للمساكن، بالإضافة إلى سن تشريع يمنع السكن داخل المقابر حال انتقال سكان المقابر إلى مساكن بديلة لأن ملف سكان المقابر يختلف اختلافاً كلياً عن ملف سكان العشوائيات، ففى ملف العشوائيات تقوم الدولة بتوفير السكن الملائم وتزيل المساكن العشوائية، أما فى المقابر فستظل المقابر قائمة ولن يترتب على تخصيص سكن بديل إزالة المقابر؛ ولا شك أن ذلك سيثير شهية الجشعين والطماعين للسعى لاستغلال البسطاء بالاتجار فيما خصصته الدولة لهم من مساكن والإيعاز إليهم بالبقاء فى المقابر، وبالتالى تظل المشكلة قائمة.
والحقيقة أننا كلنا ثقة فى أن أجهزة الدولة قادرة على تجاوز هذه المشكلة، بل أننا على يقين بأن هذا الإرث الثقيل سينتهى آثاره فى المستقبل القريب ولن نرى سكانًا يتخذون المقابر مأوى لهم.