المال العام.. ورءوس حان قطافها!
تلاحظ لصاحب المنزل أن «الدجاجة المطهوُّة» التى قدمها له «الطاهى الخاص» على مائدة الغداء.. ذات ساقٍ واحدة! وحين قام بالسؤال مستفسرًا أفاد «الطاهى» بأن «المرحومة» ــ كعادة الدجاج ــ كانت تقف على ساقٍ واحدة لحظة تفاعل نصل السكين فى رقبة المسكينة؛ وقد تم طهوها على هذا الحال! وبالتأكيد.. فإن الساق المبتورة ذهبت إلى غير رجعة فى رحلة إلى بطن هذا الطاهى اللص خائن الأمانة؛ صاحب تلك السذاجة المُفرطة فى تبرير جريمته الشنعاء.
بشرة صافية وشابة!! هل تودين ذلك ؟
والموضوع على طرافته.. أسوقه كمثال ودلالة؛ لكنه مُحزن، مُخجل، مُشين، يشى بدناءة الطاهى وسرقته العلنية الفجَّة، ولكننى كباحثة أكاديمية ــ أجدها مدخلاً جيدًا للحديث عما يدور هذه الأيام على الساحة فى الشارع المصرى؛ والحديث الذى لاينقطع عن الجرائم المتتالية بتفنن البعض فى سرقة المال العام وإهداره بالطرق غير المشروعة التى غابت عن أعين «إبليس» نفسه؛ وأيضًا أجدها فرصة لمحاولة دراسة علاقة هذا الموضوع بمقولة شائعة ــ صارت مثلاً ــ تقول: «إن فاتك الميرى.. اتمرَّغ فى ترابُه» ! ومن المُمكن أن تكون تلك المقولة تم إفرازها وتحميلها على اللغة والأمثال الشعبية الدارجةعلى لسان العامة؛ ربما تكون قد دُبِّجت منذ هجمات مجموعات الفدائيين على معسكرات الإنجليز أيام الاحتلال؛ أو من قِبَل العمال فى تلك المعسكرات التى كانت تسمَّى ـ وقتذاك ـ بالـ «أورنُوسْ»؛ أو السطو على مخصصات الوزارات والمصالح التابعة للحكومات المتعاقبة على الحكم والتبرير بأن سرقة المُحتل «حلالٌ حلالٌ حلالٌ.. حلال» ولا جُرم فيه.. أقول: ربما! ولكنها صارت نهجًا وسبيلاً على طول السنين وتوارثته الأجيال دون البحث ــ كما يقولون ــ عن أصلها وفصلها!!
لقد فاقت المسألة كل الحدود والتصورات؛ وبخاصة أن هذا الأمر لا يمثل كنوز وتراث مصر المحروسة فحسب.. بل يمثل تراث البشرية والإنسانية جمعاء منذ فجر التاريخ، وليس بخافٍ على أذهانكم المستنيرة أنه إذا كانت هناك على طول الزمان وقائع تمثل هذا الـ «فساد».. فلابد له ـ على الشاطئ الآخر من نهر الحياة.. من وجود العديد والعديد من اللصوص والـ «مفسدين»!
ونحن بدورنا كنَّا ـ فى خجلٍ ـ نسوق بعض العذر لأصحاب اعتناق هذا الفكر بالتعلل بأننا تحت نير الاحتلال البغيض وبمبدأ: «اللى ييجى منهم أحسن منهم»! ولكن ونحن الآن ـ تحت القيادة المصرية الوطنية المخلصة ـ نعيش أزهى عصور مصرنا المحروسة: سياسيًا واجتماعيًا وأمنيًا واقتصاديًا وعسكريًا؛ ونسعد بفرحة الانتصار باستعادة مكانتها التى تليق بها بين دول العالم؛ ونتمتع بكل مقومات المواطنة الصالحة والحرية الكاملة ونعمة الانتماء ، نتساءل: ما هى الأعذار التى نسوقها لهؤلاء الذين توحشوا ـ الآن ـ فى التحايل بشتى الطرق للاستيلاء على المال العام؟ المتمثل فى أصول الدولة وممتلكاتها فوق الأرض وتحت الأرض؛ وعدم الاكتفاء ـ كصاحبنا الطاهى بسرقة ساق الدجاجة؛ وامتدت سفالتهم وأطماعهم إلى أحشائها وكبدها وقلبها؛ وذلك بالحفر والتنقيب ــ أسفل جدران المنازل فى الريف والحضرــ بحثًا عن خبيئات كنوز الفراعنة من الذهب وبرديات الأسرار العلمية التى تحفظ أسرار هندسة البناء والتحنيط التى سبقوا بها كل الحضارات ومنحتهم تميمة الخلود. وهنا.. وأمام كل هذه الاكتشافات الموثقة بالصوت والصورة؛ والتى تمت بمعرفة رجال الأمن لتنظيف الوطن من كل الموبقات التى تلطخ ثوبنا ناصع البياض؛ توالى سقوط العشرات من «فئران التاريخ والجغرافيا» الذين بات كل شاغلهم الشاغل «ثقب قاع السفينة» ونهب ما تصل إليهم أياديهم الملوثة من أموال عامة وخاصة؛ كان لا مناص من وقفة جادة فى وجه هؤلاء للمحاسبة أمام القانون والأعراف التى تدين أفعال هؤلاء المتمردين على إطار الولاء والانتماء والوطنية الحقَّة؛ والوقوف داخل قفص الاتهام ــ والقيود الحديدية فى أياديهم ــ تمهيدًا للدفع بهم خلف القضبان؛ انتصارًا لحق الوطن والمواطن فى التمتع بممتلكاته المادية والعينية؛ وإغلاق الثغرات القانونية والأبواب والثقوب التى تدلُف من خلالها جحافل الفئران.
ونحن أمام كل هذا النهب المُمنهج والمنظم والمرتبط بحلقات سلسلة شبكات العصابات الدولية؛ أتمنى أن أقف فى ميدانٍ عام ــ وبجانبى زمرة المثقفين والأدباء وقيادات القوى الناعمة المصرية ــ وأصرخ صرخة الحجاج بن يوسف الثقفي: «إننى لأرى رءوسًا قد أينعت وحان قطافها، وإنى لصاحبها، وكأنى أنظر إلى الدماء بين العمائم واللحى»!، أقول: أتمنى! ولكننى أهيب برجالات الدولة من حكمائها وقضاتها بالقصاص من هؤلاء فى محاكمات علنية على الرأى العام المصرى والعربي؛ لأننا لسنا دعاة مظالم تنتهى بسفك الدماء بلا سندٍ أو دليل؛ وحتى يعرف المواطن الذى يبذل الجهد وينضح العرق فى ميادين العمل والحقول.. أن قيادته الوطنية تمتاز باليد النظيفة التى تحافظ على كرامة الوطن ورفاهية المواطن قدر ما تتحمل وتطيق؛ وتعمل على إرساء مبادئ العدالة مغمضة العينين بلا محاباة أو مجاملة.
إن جموع الشرفاء فى وطننا العزيز؛ تنتظر تحقيق العدالة باستصدار القوانين الرادعة التى لا يأتى الباطل إليها من الأمام أو الخلف؛ وهى القوانين التى لا تقبل التواطؤ لصالح فئة ضد فئة؛ أو تفضيل جماعة على جماعة أخرى؛ وبخاصة تلك الجماعات التى تحتمى بعباءة الدين؛ والاختباء خلف ظلال العباءة والمسبحة، وفى كل الأحوال ـ نحن ـ لا ننصر فئة على فئة إلا بالقانون وإعلاء الحقيقة.. ولنشاهد تمثال «العدالة» مغمضة العينين؛ إلى جانب المسلة التاريخية بميدان الحرية والكرامة.. الشهير بـ «ميدان التحرير»!
أستاذ ورئيس قسم الإنتاج الإبداعى بأكاديمية الفنون