الخميس 11 يوليو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
لغز الفن الهنغارى وعبقريته

لغز الفن الهنغارى وعبقريته

 (لقد أغمضت أقلام النقد عيونها عن هذا الجانب المضىء من أوربا على الرغم من أن نقطة البدء كانت هنا دائما) هذه المقولة كان دائما يرددها ماركوس هابل مدير متحف البليفدير النمساوى الشهير وكان يقصد بالجانب المضىء فى أوربا هذا الإقليم الذى يقع بين تخوم أوربا الشرقية وأوربا الغربية هذه الممالك التى انقسمت وتشعبت ودخلت مرات متتالية تحت إمرة إمبراطوريات عديدة مثل السلوفاك والتشيك وأجزاء كبيرة من هنغاريا – المجر حاليًا – ومن بين هذه التخوم خرج فناننا الذى نتحدث عنه اليوم وهو الانطباعى الكبير لازلو ميدنيانيسكى والذى يتفرع نسبه لعدة بلاد فهو هنغارى فى معظم نسبة نمساوى بولندى وله أصول فرنسية لجدته لوالده ويعرف فى معظم المجتمعات الفنية بلقب – اللغز الهنغارى – ولسنا نعرف عن حياته الكثير لكن هناك خطوطا رئيسية فى حياته نستطيع أن نقتفيها لنعضد بها تحليل أعماله وقبل ان نشرع فى ذلك علينا أن نطرح قضية هامة فى فن إقليم أوربا الشرقية والتى تجاهلها ربما عن عمد معظم نقاد الفن التشكيلى أو قل انهم لم يولوها الاهتمام المناسب الذى يعطيها حجمها الحقيقى ومن ثم سقط فنانون عدة من قائمة النقد والتحليل ربما كانوا حلقات مفقودة فى تاريخ تطور الفن التشكيلى الأوربى والعالمى فالبعض يقول إن الفنان التشكيلى الذى لم تواتيه الفرصة ان ينزح إلى باريس لم يكن له من الشهرة نصيب، وكانت أوربا الشرقية بكل أقاليمها هى الأكثر رصانة فى تطوير الفن التشكيلى ومدارسه وتقنياته القديمة ولعلنا لعدم مطالعتنا الدؤوبة لحركة الفن التشكيلى فى اوربا الشرقية نجهل أن التطوير جاء من أوربا الشرقية فالرمزية أتت من أوربا الشرقية والدادية أتت من أوربا الشرقية والثلاث مدارس المتدرجة فى الانطباعية وصولًا للانطباعية الحديثة نشأت كلها فى أوربا الشرقية بل ويؤكد مفكرون ونقاد كثيرون مثل رولوه أن الرمزية نشأت فى أوربا الشرقية وهذا ما سوف نجده عند لازلو ميدنيانسكى.



لعلنا نستطيع أن نقسم أعمال لازلو بكل وضوح لعدة مراحل محدد وواضحة ربما بها تداخل قليلا، حيث بدأ كلاسيكيا ولعلنا لا نستطيع أن نجزم أن كلاسيكيته حينما بدأ ممارسة التصوير كانت متحررة من عدمة لندرة أعماله فى هذه المرحلة لكن دراستنا للمرحلة اللاحقة من مراحل حياته الفنية وهى مرحلة الرومانسية والتى ظهرت فى عدة بورتريهات منها لوحتة الشهيرة – شايلوك أو المرابى – والتى نجد فيها تأثرا واضحا بالرومانسية الإسبانية لكنها لا تخلو من كلاسيكية ولذا يصعب علينا تخيل مراحل حياة لازلو الفنية بدون بداية كلاسيكية وربما أتت هذه المرحلة حينما كان يدرس على يد توماس إيندر أستاذه الأول والذى تتلمذ على يدية حينما زار توماس مقاطعة سترازكى التى كان يعيش فيها لازلو وهو صغير مع أسرته الأرستقراطية ويظهر أثر الرومانسية الإسبانية فى الألوان القاتمة وظلامية الخلفيات واعتبار الوجه الأكثر خفة فى اللون هو مركز البورترية ولعلنا نستطيع ان نقول أن هذا التأثر بالرومانسية لازمه معظم مراحل حياته مع جنوحه بعد ذلك لأساليب ومدارس أخرى.

بعد مرحلة التعلم الخاص على يد توماس إيندر التحق لازلو ميدنيانيسكى بمدرسة الفنون الجميلة فى ميونخ ولعل مرحلة الدراسة هى التى جعلته يتجه بقوه فيما بعد للانطباعية التى كانت سائدة فى معظم مدارس وأكاديميات الفنون فى هذه الفترة والتى شكلت معظم اعماله التى تتناول المناظر الطبيعية وبعض البورتريهات التى اتخذت من الانطباعية أداة مساعدة فقط بما معناه أن الانطباعية لم تؤثر بشكل طاغ على بورتريهاته لكنها أثرت فقط فى أعماله التى تتناول المناظر الطبيعية، وعلينا ان نتوقف هنا لنوضح للقارئ شيئا هاما وهو أن معظم النقاد بالغوا فى تصنيف لازلو على أنه انطباعى وتجاهلوا المؤثرات الأخرى فى أعماله فنحن نرى ان أعمالا كثيرة للازلو ميدنيانسكى تبين احتفاءه بالواقعية ويظهر هذا بقوة فى لوحته تمثل مجموعة من الأبقار تشرب من البحيرة فتجسيد الأبقار يتعدى ان يكون انطباعيا بشكل كبير فالتجسيد واقعى كذلك استخدام تدرج الألوان بشكل مرحلى وليس بتأثير ضربات الفرشاة كما هو معروف فى تقنية التصوير الانطباعى، كذالك فإن لازلو لم يكن انطباعيا فى معظم بورتريهاته أيضا فنحن نكاد نجزم أن بذور المدرسة الوحشية التى ظهرت فيما بعد على يد بول جوجان وأتباعه كانت فى بعض بورتريهات لازلو ويبدو ذلك فى البورتريه الشهير – عامل اليومية – فحدود الوجه والنظرة ودرجات الالوان ومقاييس الوجه والجذع يتبع المدرسة الوحشية بشكل كبير.

ولعلنا لا نبالغ إذا قلنا ان لازلو مارس كل المتاح فى عصره من تقنيات حتى انه فى بعض اعماله يصنف انه من المدرسة الرمزية بل ومن أوائل روادها ويتبدى ذلك جليا فى لوحته الشهيرة – الاقتراب من الموت – والتى يمثل فيها رمز الموت والبرزخ المؤدى للعالم الآخر والمحتضر الراقد على الفراش الذى يتطلع لهذا الممر الغامض الذى هو مقبل على عبوره وفوقه شبح يمثل الموت أو ملك الموت يرفع الستار الذى يكشف عن هذا الممر الغامض الذى يرمز لرحلة العالم الآخر وتظهر فى اللوحة الرمزية الشديدة بكل وضوح كما تظهر أيضا تلك المسحة السوداوية التى دمغت معظم أعمال الرومانسية الحديثة والرمزية.. إذا فمدينانيسكى مارس العديد من تقنيات ومدارس الرسم وربما يعود ذلك لأمرين أولهما أن لازلو عاش مرتحلا بين كل أقاليم اوربا فى فترات نشوء الحركات الثورية والطليعية فى الفن تحت ضغط الحروب والثورات والكوارث التى اجتاحت اوربا الكارثة تلو الأخرى، وثانيهما هى قدرته على التكيف والتشكل مع مدارس الفن التشكيلى المتعددة ومرونته تجاه تنفيذها وتطبيقها بأسلوبه الخاص والمميز.