
د. طارق الغنام
العلم فى الميزان
منذ القرن الثامن عشر وتتوالى الاكتشافات العلمية يوماً بعد يوم وما كان مستغرب وقتها أصبح اليوم تاريخًا تم تجاوزه، ومن ضمن الاكتشافات التى أثارت جدلاً فى القرن التاسع عشر نظرية تطور الأنواع لتشارلز داروين فى كتابه أصل الأنواع والتى توصل فيها إلى أن كل أنواع الكائنات الحية على مر الزمان تنحدر من أسلاف مشتركة وقد اعتبرت هذه النظرية سنة 1930 النظرية الموحدة لكل علوم الأحياء وأكدها العالم جيمس واطسون أحد مكتشفى الحمض النووى والذى أثبت صحة أغلب أفكار داروين عن طريق الحمض النووى الذى أمكن به معرفة تطور الأنواع وكيفية تشكيل الكائنات وتغيير مظهرها، فأثبت أنه بتنشيط جين معين لطائر ما يصبح منقاره طويلًا وإذا تم تنشيط جين آخر أصبح المنقار قصيرًا، إلى جانب ذلك فقد توصل العلماء إلى أن عملية الارتقاء لا تنشأ من خلال تغيير الجينات ولكن من خلال ظهورها واختفائها، وهكذا توالت الاكتشافات فى هذا المجال إلى أن تم التوصل إلى خريطة الجينوم البشرى سنة 2003 وما تلاها من اكتشافات وجميعها لم تختلف على صحة نظرية داروين، حتى إن دراسة حديثة انتهت إلى أن كائنًا شبيهًا بالبكتريا أطلق عليه اسم لوكا ظهر منذ أربعة مليارات سنة كان أصل جميع أشكال الحياة على الكرة الأرضية.. وعلى الرغم من ذلك- وعبر تاريخ الإنسان العاقل الممتد زهاء 300 ألف سنة - مازال الإنسان يقف من العلم عند النقطة التى بدأ منها، وكأنه يقول أينما ذهبت فلن أستطيع أن أبرح هذه النقطة مهما بلغت من علم، فإذا افترضنا أن الإنسان يجتهد للوصول إلى معرفة أو اكتشاف شىء ما، فسوف يجد نفسه بوصوله إلى مبتغاه يبدأ من جديد فى مجال يتطلب استكمال ما بدأه وكأن نسبة العلم لديه مقدرة وكذلك نسبة الجهل.. فعندما بدأ الإنسان حياته البدائية فى الكهوف كان علمه قليلاً عن العوالم التى تحيط به وكان ما يجهله عن هذه العوالم أكثر مما يعلمه، وعندما دخل الإنسان عصر الثورة الصناعية وتقدمت العلوم والتكنولوجيا اتسع علمه ولكن مع اتساع علمه ظل جاهلاً عن الكثير من الأمور التى أخذت تتكشف له ، فكلما اعتقد أنه بلغ منتهاه فى مسألة ما يجد أنها بداية لمسألة أخرى ،وكأن علمه لم يتسع وجهله لم يقل، فقد اكتشف الإنسان النجوم والكواكب التى تسير فى مجرتنا ولكنه سرعان ما اكتشف أن مجرتنا ما هى إلا مجرة من ضمن مليارات المجرات فيها مليارات من النجوم والكواكب، فالواقع أن علم الإنسان إنما يكشف جهله.. فرحلة حياة الإنسان سيظل يكتنفها الغموض والسعى لاكتشاف المجهول ولن يبلغ العلم منتهاه فى أى مرحلة من مراحل حياة الإنسان، وستظل الحقيقة بمفهومها الشامل التى يبحث عنها العلماء غائبة لأن علم الإنسان لم ولن يكتمل، فكل ما نصل إليه من نتائج علمية لن تكون إلا مجرد اجتهادات يمكن أن تتبدل معادلتها.. لذلك لا يجب ألا نتشبث بنتيجة ما على أنها حقيقة فيما نسبغه من رؤى حول موضوع ما، فكل ما نصل إليه ما هو إلا مجرد اجتهاد قد يتلقاه البعض بالقبول وقد لا يقبله آخرون وما بين نسبة القبول والرفض يُكتب له النجاح أو الفشل لفترة من الزمن.. لذا لا يجب أن نزهو بما وصلت إليه البشرية من إنجازات علمية وفكرية، فما زال هناك الكثير والكثير الذى ينتظر البشرية .