الجمعة 26 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

عبد العزيز الجندى والغناء على حافة الوجد

 يحرص أن يتلقى الصباح فى أولى إشراقاته على عالمنا الحزين، يتنفس الصبح فى معيته ويتخذ من الكائنات ونساً عظيماً يليق بعاشقٍ حكيم، يرتشفُ عناصر المكان كى لا تفلت منه أية لمحة، يسجل الجبال والنهر والوادى والنخيل والبيوت وعازفى الربابات، يلتقط حتى الأطياف فى تهويماتها الليلية المارقة، يطوف بينابيع الفيض حيث الومضات المترعة بالطاقة التشكيلية الكثيفة، يتحرى لحيظات ميلاد الجمال فى جلال وخشوع، يسكن فى حضرة البراح ويتلقى أنوار العارفين، يصنع تلك البوابات الذهبية التى يهيم فى صحبتها ويخترق الحجب وينفذ إلى ملكوت المادة حيث وجهها البرزخى الهادر فى جوهرها، خلف تلك التكوينات التى التقطها بوعيه الحاد المستنير. 



تشكيل الفنان عبد العزيز الجندى للمشهد التصويرى يمتلك فرادة يبزغ بها فى الوعي، يرفرف على بوابات السديم، يسقى القلب معناه، يعبرُ جليلاً فى المدى، كلُ الكائنات خاشعة تشهدُ بلوغ الخلقِ تمامه، تنعم الكائنات بسكون الرضا وعلامات كونية لحسن المآل، حقلٌ مترعٌ بالضوء، ضفة نهر عجوز، عتبات العبور بين عالمين، دائماً تذوب اللوحات فى الحيرة والتعلق والأطراف النائية وتلك الرفقة المؤقتة، على أطراف المدن، وتلك الموانئ القلقة، ساحات الدراويش تئن بالمجاريح، و صلوات من ذهب، تطوف محلقةً فى سقفِ الضريح حيث ياقوت العرش.كما فى لوحته مراكب الأنفوشى 100سم*70سم.

يعرف الفنان عبد العزيز الجندى قيمة الصمت ويعرف قيمة الغناء فيغنى إذا فاض به الوجد ويبوح، يبحث فى اختراق مسطح اللوحة الأكاديمية ليحطم لغتها الكلاسيكية ويقوم بتفكيك العالم وبنائه من جديد، يصنع تلك البعثرة الحكيمة فى براحه الجديد وتلك الومضات التى تفوح منها تأثيرات فن الجرافيك وتقاليد المنظر الطبيعى القديم والعقود المعمارية السابحة فى براح وعيه الفنان سريان اللون مع الماء بين الوريقات الذهبية والمخرمات والملصقات الدقيقة المنمنمة .نجده يفتح عتبات وبوابات ودرجات ترقى بالسارى حتى الوصول إلى المدى المفتوح، لم يسد مجال الرؤية ولم يضع حلاً أو وسيلة للسلوك بل فتح مسارات وفروع لا متناهية تكاد تؤدى إلى بعضها وتؤدى إلى حقيقة البراح حيث مصب ذلك السيل الجارف الذى يحلم به.

 فنرى دوماً بواباته ومسالكه وعتباته تفتح للضوء طريقاً بين غيامات الأحبار ولمسات ألوان الجواش المعتمة وتذكرنا حيث الميثولوجيا الرومانية حين يقف يانوس إله الأبواب والبوابات أمام المنازل بوجهين ..و تكون العتبة هى النقطة التى يلتقى عندها الداخل والخارج هى نقطة الغرابة التى تجمع بين الاتصال والانفصال، وعندها الأبواب التى تقسم المكان إلى مساحتين كما قال جورج بيرس G.perce تكون غامضة مريبة.

 تجمع حالة ملتبسة واحدة بين الدخول والخروج ومن ثم تكون رمزاً وسجلاً لذلك القلق المكانى الأساسى الذى يتعلق بشيء ما كنا نخافه تلك المجاوزة والمفارقة المأمولة المرتقبة و لحظات البين، تلك الآمال المحبطة والنفاذ إلى التحقق والسطوع عبر الغلالات المتتالية من الأستار والحجب، حتى ينفذ عبد العزيز الجندى إلى العالم الآخر المختفى إلى تلك الشلالات المنهمرة بالذهب. ذلك الطوفانُ الذى أغرق المدينة العجوز.يقرأ بما تعلم وينطق بما شهد فى غمار اختراقه للحجب المادية وفى خضم ارتقائه مغتسلاً بالنور. يصوغ عبد العزيز الجندى تلك المفردات التى نعرفها فى عالمنا ولكن بلغة باطنية كثيفة تبدو وكأنها قادمة من مركز دائرة شمسية متوهجة وهى تصاوير درويش دوار يتألق العالم فى عينيه من أثر الدموع فيبدو من منظوره الخاص وقد اكتسا بالذهب.

يأخذنا الفنان عبد العزيز الجندى من خلال تلك البوابات التى صنعها من أوراق الذهب المندمجة مع المسطحات الخشبية إلى الاستغراق فى عالم جديد، براح آخر لا مكانى، بل هو براح ملكوتى روحى يغوص فى نواميس دقيقة جديدة تنتمى لعقل عبد العزيز الجندى وحده ونحن إذ نواجه كل هذا الفيض نجد ذواتنا فى موقف الوعى الساطع والتلقى الصافى لما يبثه الفنان لنا إلى حيث المشهد الرهيب الذى مثله كانط حين وصف المشهد الخاص بشخص يقف فوق صخرة عالية تشرف على بحر هائج متلاطم الأمواج، بفعل عاصفة قوية، هنا يقف المرء بقدميه على أرض صلبة بعيداً عن مخاطر البحر الهائج وبينما يكون الخطر الخاص بتلك الهاوية الساحقة الهائجة بعيداً، فإن ما يحدث تهديداً لدى المرء، هنا، يكون هو خياله فقط، هنا يصبح الموضوع، أى عنف العاصفة المتلاعبة بأمواج البحر، هاوية سحيقة بالنسبة للخيال مما يدفع قوى التفسير والتأويل، لدينا هنا، نحو حدودها القصوى، وكما قرر كانط ذلك : « عندما يكون شيء ما متطرفاً أو مفرطاً فى حضوره وقوته فإنه سيكون، بالنسبة للخيال، هاوية سحيقة، يخاف الخيال أن يفقد ذاته فيها «. 

لا تنسحق الذات فى حضرة المشهد الجليل الذى صنعه الجندى بل يتم شحذ عملية الوعى والتأويل إلى أقصى احتمالاتها ووجوهها .هو لم يلتفت إلى عنصر من عناصر الطبيعة وعكف على تصويره وحسب؛ إنه يلتفت هنا إلى الحقيقة المطلقة، إلى الكون بأسره .و لا يتخلى عن بنائياته وصروحه وتكويناته المحكمة.لكنها دائماً مرافئ للفراق ونقاط الالتقاء بين عالمين ومناطق للعبور بين المقامات، كضفة النهر فى المنيل ومرسا القوارب والمعدية والسوق ومحطات القوافل وأماكن الانتظار، صوب الأشجار وفى ظلال النخيل وحيث الصفصافات الحكيمات ويكون صوغ الفوت وأثمان العبور والانتقالات الفادحة بين ما يبدو للغافلين وما يلقاه العارفون.

يبدأ عبد العزيز الجندى فى بناء العالم الجديد، صورة حقيقية جداً للزحام الذى يسكن ذلك الرأس المفكر المهموم بلا اصطناعٍ أو ثرثرة أو لمسات زاعقة، ذلك اللطف فى الوصول إلى القصد وذلك الهدوء الجليل الذى يترقرق على وجه العمل الفنى فيغمر الوجود بالسكينة والتأمل والرضوان الجميل،يهتم الجندى بدمج المسطحات المختلفة فى نسيج واحد ممتلئ بالصبابات والثقوب والعلامات والرؤى.يقوم بتلخيص الهيئة البشرية بلمساته المينيمالية الزاهدة فى أية ثرثرة أو أى اسهاب، مثلما فى لوحة بائعة الفجل 80*120سم تأثير الألوان واللمسات الإضافية من الأحبار والجواش تلك اللقطات التى يتداخل فيها البورتريه مع المنظر الطبيعى فى ثراء باهر واختيار ثاقب للمشاهد التى يقوم باختراقها، مشاهد من حديقة الأورمان، ضفة النيل فى منيل شيحة، كوبرى المانسترلى، مشاهد الصيادين فى الأنفوشى، شفافية تتلوها ومضة تتلوها لمحة تسرى فى فضاء اللوحة بصورة خاطفة تلك اللحظات التى التقطها وهى بعد بكر مفعمة بالمعنى.

نخلات عبد العزيز الجندى المرصعات بالذهب والأوراق المزهرة، يسيل الحبر من شواشيها كأنها كانت تستحم بماء الذهب، لا يعرف تمرها ولم يحلم به،يأنس إليها ويبثها حواديت البنات،رسائلهن المفعمة بالصباح، والخصام الغر فى أزمنة الملائكة،زيجاتهن المفاجئة ..شحوبهن البادى فى طوابير الخبز، مقياس النيل فى المنيل، والصياد مطرقٌ والمرسا، ظلٌ بئرٍ تسقى الحيارى المتناثرين على الطريق،تملأ جرار القوافل الحزينة وتصلى للمسافرين، يأوى لها الصغار عند الغروب، لم يرتو منها قط .. بل كان يرويها بالمواويل.

 يرسم الفنان عبد العزيز الجندى حديقة ًيزورها دوماً مع طلابه وهى ترسلُ إليه أسرارها وزهورًا مع أغنيات الضحى، تلقى الرحمات على طول البلاد وظمأ الحالمين، تورقُ بالحكمة الجريحة وتبتسم حين يناديها يا أم، تأذن له أن يرسمها، ثم تتركه ينفلت من بين كفيها كل لقاء. 

تُستَضَاءُ اللحظة الإبداعية التى يتجلى فيها المعنى لدى عبد العزيز الجندى بواسطة وميض من التشكيل فى تحليق سريع، من خلال لغةِ الإيماءة gesture.فما تعبرُ عنه الإيماءة يبقى «هناك» فى الإيماءة ذاتها .إن الإيماءة هى شيءٌ ما يكون مادياً برمته وروحياً برمته فى وقتٍ واحد .فالإيماءة لا تكشفُ عن أيِّ معنىً كامنٍ وراء ذاتها .كما فى لوحته وجه وعين 70سم*100سم فمجمل وجود الإيماءة يكمنُ فيما تقولُه. وفى نفس الوقت فإن كل إيماءة تكون أيضاً معتمة بطريقة ملغزة .إنها سرٌ يحتفظُ بشيءٍ ما بقدرِ ما يكشفُ .-كما أوضحها هانز جيورج جادامار-لأن ما تكشفُ عنهُ الإيماءة إنما هو وجود المعنى أكثر من كونهِ معرفة المعنى .أو لنقل أن الإيماءة تكونُ جوهراً أكثر من كونها موضوعاً..