الخميس 25 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
الطب الإيهامى بين التراث وعلم الإنسان والتاريخ

الطب الإيهامى بين التراث وعلم الإنسان والتاريخ

فى سابقة أنثروبولجية ساطعة وفى إحدى رحلات العالم الكبير كلود ليفى شتراوس فى البرازيل حيث أصيب أحد السكان الأصليين من القبائل الهندية بطلق نارى فى كف يده الذى أصبح لزاما عليه أن يقوم الطبيب ببتره والطبيب على بعد ثلاثة أيام إبحارًا فى النهر ومن ثم بدأت الغرغرينا فى الانتشار فى الجرح لكن طبيب القبيلة الذى كان ملازما للفتى الهندى المصاب كان يمارس طقوسه البدائية والتى هى عبارة عن رقصات وأغان تحفيزية للمريض ثم استخدم العلق ووضعه فى الجرح.. وحدثت المعجزة.. قضت الديدان التى استخدمها كاهن القبيلة على الغرغرينا تماما ولم يحتج الطبيب إلى بتر يد الشاب الهندى المصاب.. وليست الديدان وحدها المسؤولة عن صناعة المعجزة بل أيضا الطقوس التى كان يمارسها ذلك الكاهن الإنديزى العجوز والذى اكتشف الطبيب الفرنسى بعد ذلك أن هذه الطقوس ربما عن طريق الإيحاء خلقت جوا سحريا للشاب المصاب وجعلت مناعته ترتفع بدرجة كبيرة حتى كادت مناعته أن تقضى على الفطريات والميكروبات التى هاجمت مكان الجرح.



 إذا علينا أن نعترف أحيانا أن الطقس البدائى بغض النظر عن تسميته سحرا أو شعوذة أو أيا كانت التسمية علينا أن نعترف أن هذا الطقس أحيانا قد يدخل فى حيز الدفع النفسى نحو تحفيز العقل أو الوعى ومن ثم تحفيز قدرات الجسد ويدخل تحت هذا البند الكثير من العمليات التى قد تأخذنا بسهولة نحو فرع هام من الدراسات الأنثروبولجية والتاريخية فى نفس الوقت وهذا ما قد تتمخض عنه عدة حلقات درس فى الكوليج دى فرانس فى موسمها الشتوى القادم، حيث تطرح وتناقش عدة أبحاث جديدة فى ضوء وثائق تمت ترجمتها حديثا بعضها اكتشف فى أوائل القرن الماضى وبعضها اكتشف حديثا لكن على وجه التحديد سوف تكون الحلقات البحثية حول موضوع واحد وهى الطب الإيحائى والطقس الإيهامى فى العلاج فى الحضارات القديمة، وتشمل مصر واليونان والشرق الأدنى والإنديز وبعض أجزاء من آسيا على أساس أن معظم آسيا كان لها طبها الإكلينيكى الخاص والقائم على أسس تخلو كثيرا من الطقس الإيهامى والنفسى فى العلاج.

كان فى البداية دور الطقس الإيهامى كبيرا فى طب الشعوب القديمة كأن يقوم الكاهن أو طبيب القبيلة أو – الشامان – كما تحب أن تسمية الحضارات القديمة كان يقوم بطقس استعادى لاسترضاء قوى الطبيعة يدخله الرقص والغناء الترنيمى مثل أناشيد الذئب عند الهنود الحمر وبعض ترانيم التبت لكن الحقيقة أنه كلما بدأت الحضارات فى التقدم والتعقيد تضاءل الدور الطقسى الإيهامى فى العلاج والتطبيب على أنه لم يختف تماما بل وظل حاضرا فى أذهان الحضارات وخصوصا الشرقية وحتى يومنا هذا فيما نجده يتحول من فكرة الكهانة واستخدام الكاهن كوسيط إلى فكرة التبرك بالأولياء والقديسين التى عالجه الأدب مرارا مثلما نجده عند يحيى حقى فى روايته الشهيرة – قنديل أم هاشم – والتى يثبت فيها صراحة أن تخليص الشعوب التى عاشت جزءا كبيرا من تاريخها حول فكرة الكهنوت يصعب أن تتحول للتفكير العلمى المطلق والأيمان المطلق بقوة العلم والتكنولوجيا وخصوصا فى عملية العلاج وهذا ما نجده حتى الآن ويقول الطبيب الروسى الشهير ميندل دورمشكين أنه كان يضطر أن يضع على زجاجات الأدوية صور لبعض القديسين المسيحيين على زجاجات السلفا والبنسلين وغيرها من العقاقير حتى يستقطب سكان إحدى قرى البلقان البسطاء الذى كان يعالجهم فى أربعينيات القرن العشرين ويقول دورمشكين فى مذكراته صراحة (لقد كان من الغريب جدا أن أجد هذا الإقبال الكبير من المرضى بعد أن وضعت صورا لبعض القديسين المسيحيين على زجاجات العقاقير التى كنت أستخدمها لأن الفلاحين البسطاء كانوا يخافون من العقاقير والمشرط ويؤمنون بقوى القديسين الذى لم أكن أؤمن بهم لأننى يهودى بالطبع ) وما كان يفعله دورمشكين هو عينه ما فعله الطبيب الشاب بطل رواية قنديل أم هاشم بحيث قرن عقاقيره بزيت القنديل الذى كان يستخدمه البسطاء للتبرك والاستشفاء.

إذن علينا أن نعترف أن تخليص الشعوب وخصوصا الشرقية من التبرك والكهنوت بشكل كامل ضرب من ضروب المستحيل وهناك ظلال كثيرة تلازم حاضرنا أتت من عادات قديمة جدا فمثلا فى فترة ما لم يكن الاستشفاء العيادى فكرة سهلة على معظم الناس وحتى المتعلمين منهم وكان ذلك لأمرين أولهما الألم الذى كان يصاحب عملية العلاج لعدم وجود مسكنات أو عقاقير تقوم بتسبيط الألم أثناء العلاج وخصوصا تلك التى تحتاج لمبضع الجراح، وثانيهما الكلفة الكبيرة التى يحتاجها العلاج العيادى هذا أيضا إذا وضعنا فى الاعتبار عدم الثقة الذى يضمره البسطاء خصوصا للطبيب كعامل فعال فى العلاج ومن ثم كسدت أحايين كثيرة مهنة الطبيب لكن الأطباء الكهنة ابتدعوا فكرة شديدة الذكاء وربما كانت بالأساس تطورا لفكرة التطبيب الطقسى وهى قائمة على استغلال المريض للآلهة وفاعليتها فى الشفاء فكانت حضانة المعبد أو كما يطلق عليها فى بلاد اليونان قديما – الأسكليبيون – أى اللجوء إلى معبد أسكليبيوس إله الشفاء حيث يلجأ المريض للمعبد وينام فى مكان مخصص لذلك يطلق عليه – هيكاتومبيدون – والمصطلح هنا يوضح العلاقة القديمة بين السحر والاستشفاء لأنه مشتق من اسم الربة هيكاتيه ربة السحر والدرك السفلى عند الإغريق وبعد أن يقوم المريض بنذر للإله أسكليبيوس إله الطب أو ابنته الربة هيجيا ربة الصحة ينام المريض وبينما هو بين النوم واليقظه إذ يرى الإله أسكليبيوس ذاته عند فراشه ويقوم الإله أسكليبيوس بتطبيبه وبعد أن يستيقظ صباحا يكون قد تم شفاؤه بشكل جزئى أو شبه كامل وبالطبع يدرك القارئ أن أسكليبيوس لم يكن يزور المريض بل هم الكهنة الأطباء الذين يرتدون زى الإله أسكليبيوس حتى يسهل عليهم إقناع المريض بالامتثال لعملية التطبيب والذى يتولد لديه نتيجة لرؤيته الوهمية للإله ما يعرف بحالة النشوة القصوى والتى تتعدد مراحلها حتى تصل للتخدير الكامل للجسد فيسهل على الكهنه فى هذة الحالة استخدام عقاقير لها أعراض مؤلمة أو حتى إجراء جراحة تحت تأثير هذه الحالة التى يعيشها المريض نتيجة لفكرة تجلى الإله، وغنى عن الذكر أن العديد من الأقاليم الإغريقية سواء فى اليونان نفسها – هيلاس – أو اليونان المهجر فى آسيا الصغرى – ايونيا – تعج هذه الأقاليم بمخلفات نذرية موجودة فى أماكن او بالقرب من معابد أسكليبيوس وأبوللو عبارة عن نقوش شكر وعرفان محفورة على ألواح أو فى الغالب على منحوتات تمثل العضو المصاب الذى تم شفائه.

كانت حضانة المعبد تمارس فى مصر فى عصر الدولة الوسطى والحديثة فى معبد الإله أيمحوتب وهو طبيب مصرى تم تأليهه وكانوا الكهنة هم الأطباء الذين يمارسون التطبيب على المرضى وبشكل فيه الكثير من التخصص حتى أنهم كما هو مثبت فى نصوص كثيرة كانوا يعالجون أمراضا مستعصية مثل الحمى الرباعية.

يعتبر استغلال حالة النشوة القصوى فى التطبيب داخل المعابد أحد اهم عناصر الطب الإيهامى او وسائلة ولازالت هذه الحالة من الغياب الكلى او الجزئى للأحساس الجسدى نراها فى المناسبات الدينية عند بعض الطوائف الغنوصية فنراهم يسيرون على الجمر أو ينامون على المسامير أو غير ذلك من الطقوس وهى لا تختلف كثيرا عن طقوس كانت تقام للعديد من الألهة قديما وخصوصا الأم العظمى الربة كيبيلى والتى كان يصل المحتفلين فى أعيادها لدرجات كبيرة من الغياب الحسى حتى أنهم كانوا يقومون بأخصاء أنفسهم أحيانا.

وعلى الرغم أن التقنيات الطبية كانت موجودة فى حضانة المعبد إلا أن الطقس الطبى الإيهامى تطور فى العصور الوسطى للدجل والشعوذة واستغلال النفوذ والمكانة سواء الدينية او الأجتماعية لممارسة طقس الأيهام الطبى على المرضى دون أى مهارات طبية تستبع ذلك فبعد أن كان الطقس الإيهامى فى الطب وسيلة لها وظيفتها أصبح هو العملية الطبية بشكل كامل مما عرض الكثير من المرضى للموت المجانى وليس أصدق على ذلك من عملية أنتشرت فى العصور الوسطى وحتى منتصف عصر النهضة وهى اللمسة الملكية التى أبتدعها ملوك أنجلترا ومارسها العديد من الملوك فيما بعد، نشأ هذا الطقس الأيهامى فى القرن الثالث عشر أبان حكم أدوارد الأول ملك أنجلترا وظل الملك يمارس هذا الطقس الأيهامى دون أى مهارات طبية فيما عرف باللمسة الملكية وكان معظم المرضى يبرأون بقوة اللإيهام.