الجمعة 12 يوليو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
لغة الجينات 69

لغة الجينات 69

عمرك جربت «التلاعب بالعقول».. على فكرة كلنا مارسنا أو اتمارس علينا هذه اللعبة بشكل أو بآخر.. فى الظاهر بتحاول تقنع شخص ما بقصة مخالفة تمامًا للحقيقة ومخالفة حتى لما رآه هو بنفسه رؤى العين.. وفى الباطن بتكون متأكد أنك بتلعب بعقله وبتبرر ماتفعله بإنك بتحاول تحميه من نفسه!



أصحاب الجينات الخبيثة محترفى «التلاعب بالعقول»، فى الظاهر بيحاولوا التأثير  فى شخص ما، لدفعه للتفكير فى أنه مخطئ حتى حينما يكون مُصيبًا... وفى الباطن بينفذوا خطة مرسومة بدقة للمزيد من تغييب العقل والضمير والوعى.

«التلاعب بالعقول» أصبح ممارسة يومية يعنى ممكن تروح تشترى جبنة «فلمنك».. يسألك الرجل العجوز فى المحل.. بابتسامة طيبة.. اشمعنى فلامنك يعنى؟ فى الظاهر الرجل يبدأ معك حديثًا وديًا.. يفتح بابًا للثقة بينكما.. وفى الباطن بدأ يتلاعب بعقلك.. بيمهد بحرفية شديدة للوصول إلى مايريد وإقناعك بما يريد.

«بصفو نية» هترد على الرجل بابتسامة «بحبها أنا بحب الجبنة الفلامنك»... هنا بدأت اللعبة فى الطريق المرسوم تمامًا.

فى الظاهر وبود مصطنع هيسألك وعرفت منين إنك بتحبها؟.. أكلت الجبنة البيمستر الهولندى ولا الامنتال؟.. عرفت طعمهما وقارنت وتأكدت أنك بتحب الجبنة الفلمنك فعلًا ولا أنت متهيألك ومش متأكد من اختيارك.

فى الظاهر الرجل بينصحك.. بينور طريقك.. وفى الباطن نفذ لعقلك.. بدأ تغيير أفكارك.. وجه كل حواسك نحو سؤال يبدو بديهيًا جدًا وقتها «مش يمكن أنا غلطان» مش يمكن فعلًا ما بحبش الجبنة الفلمنك لأنى مجربتش غيرها  ..الأهم أنه هيخليك تبدأ تشك فى قدرتك على الاختيار والحكم على الأشياء وهيخلى كل مشكلتك فى الحياة.. هى «الفلمنك» حلوة فعلًا وأنا بحبها ولا أنا غلطان..

فى الظاهر الرجل  حرضك على التفكير والتغيير.. وفى الباطن زرع فى داخلك بذرة التفاهة والاهتمام بتوافه الأمور والتعصب للتفاهات.. وقتها هتبدأ إما تدافع بعنف عن الجبنة الفلمنك وتتعصب لها وتسب وتلعن كل اللى مابيحبش الفلمنك أو ترفع راية المظلومية وأن الكل بيحارب الجبنة الفلمك وحلاوتها.

اللعبة البسيطة الجميلة دى اللى فى الظاهر بدأت بابتسامة مخضرم ووهم أنك مش عارف مصلحتك ومش قادر تختار صح.. انتهت فى الباطن بأنك متعصب للجبنة الفلمنك وبتكره كل الأنواع غيرها.

اللعبة دى بتتكرر معاك كل يوم وفى كل حاجة تقريبًا... فى الكرة فى الفن فى السياسة فى الإعلام فى الأدب فى منظومة الأخلاق وكلها لها هدف وحيد «أنت اللى غلطان.. ومش عارف تعيش.. ومش عارف تختار.. ومش عارف مصلحتك».

«أصحاب الجينات الأصلية» لديهم قدرة كبيرة على التصدى لعملية التلاعب بالعقول هذه... فى الظاهر ممكن خداعهم بعض الوقت.. وفى الباطن محصنين ضد فكرة التعصب أو الانحياز.. لديهم يقين أنه ليس هناك مجتمع متقدم بطبعه، أو بوعيه الجمعى، فالتقدم يتأتى من تأثير أفراد قليلين أو حتى فرد واحد يؤمن أن الحياة أفضل وأجمل وتستوعب الجميع.

«روزا باركس» واحدة من أصحاب الجينات الأصلية فى الغالب لا يعرفها الكثيرون.. «روزا» فى الظاهر مجرد فتاة فقيرة سمراء تعمل بجد واجتهاد كخياطة فى مصنع لتحسين أحوالها المعيشية.. وفى الباطن صاحبة جينات أصلية لا تعرف اللف والدوران ولا اللوع.. تصر على هدفها وتعمل بهدوء لتحقيق ذاتها.

«روزا» فى العام 1955 بعد يوم عمل شاق ركبت الأتوبيس فى الطريق إلى البيت  وجدت كرسى فاضى.. جلست على المقعد وبدأت فى التفكير فى حياتها وخططها للمستقبل وكيف ستغير من واقعها الأليم.

بعد قليل دخل رجل أبيض ووقف أمامها طالبا أن تقف وتعطيه الكرسى الذى تجلس عليه.. فى الظاهر الرجل الأبيض يطلب حقه الذى أعطاه له القانون الأمريكى فى الخمسينيات الذى يلزم السود بالتخلى عن مقاعدهم للبيض فى الأماكن العامة.. وفى الباطن يمارس نوعًا من العنصرية المقيتة يتقبلها الجميع ببساطة ولا يفكر غير فى نفسه.

 «روزا» قررت أن تتخذ موقفًا شجاعًا، كان سببًا فى رفع معاناة ملايين السود وهو ألا تقوم للرجل الأبيض وتخالف بذلك القانون فى الظاهر هاج البيض بزعم حماية وتنفيذ القانون ومارسوا تلاعبًا بالعقول من نوعية عدم احترام أى قانون سيؤدى إلى فوضى وتحويل المجتمع إلى غابة.. وفى الباطن كانوا يحافظون على مكاسبهم الشخصية وساندهم سائق الأتوبيس وتوقف على جانب من الطريق رافضًا السير ليجبرها على أن تترك المقعد للرجل الأبيض... ولكنها رفضت التحرك من مقعدها.. دقائق ووصلت الشرطة  لكن «روزا» أصرت على موقفها فقامت بإلقاء القبض عليها، وقدمتها إلى المحكمة التى فرضت عليها غرامة مالية.. رفضت دفعها فتم إيداعها فى السجن.

فى الظاهر هدأ المجتمع الأمريكى العنصرى وشعر بالنصر وفى الباطن كانت هذه هى الشرارة التى أنارت الطريق والعقول للملايين من أصحاب البشرة السوداء فأعلنوا الإضراب عن ركوب الحافلات واستمر الإضراب ٣٨١ يومًا.. استمر الوضع حتى صدر قرار المحكمة العليا فى واشنطن عام ١٩٥٦م الذى حرم التمييز العنصرى فى الأماكن العامة.. ثم صدر قانون الحريات المدنية عام١٩٦٤م الذى حرم التمييز على أساس العرق.

«روزا» امرأة وحيدة بموقف واحد رفضت فيه التلاعب بعقلها غيرت مجرى التاريخ... ألم أقل لكم إن التلاعب بالعقول خطر.. وأن ظاهره الرحمة وباطنه العذاب.

احذر من المتلاعبين بالعقول.. مرر كل شىء على عقلك.. فكر بجدية فى أسباب إغراقك فى تفاهات فى كل المجالات واتخذ خطوة إيجابية نحو نشر الوعى والتفكير العقلانى.

اعلم أن الخيل إذا قلت تحلت الحمير بالسرج الأنيق المبهر.. فإذا رأيت حمارًا بزى خيل أصيل.. اصبر فلا كاشف لأمره إلا النهيق.