الخميس 9 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
لغة الجينات 72

لغة الجينات 72

سلوكيات الإنسان فى الغالب ليست ثابتة، فهى تتغير حسب مراحل العمر، يتحكم فى هذه التغيرات الجينات الأصلية والجينات الخبيثة.



«صاحب الجينات الأصلية»  قد يبدو فى الظاهر فى مرحلة ما أو وقت معين لا يسير خلف النور بداخله.. لكن فى الباطن تأتيه نقطة تحول.. بعدها يختلف تمامًا فى سلوكه وطباعه. «نقطة التحول»  تغير حياة صاحب الجينات الأصلية  كلها.. تقلبها رأسًا على عقب.. هذه النقطة  قد تكون جملة أو كتابًا أو منظرًا إنسانيًا أو حتى شجارًا عائليًا أو مشهدًا تليفزيونيًا أو ذكريات من الماضى أو بيتًا شعريًا أو تأنيب الضمير.

«نقطة التحول « نفسها تأتى لصاحب الجينات الخبيثة.. لكنه يخاف منها.. يخشى فقدان مكاسبه فيتجاهلها ويهرب منها.. هذه النقطة تظل تطارده ليل نهار.. فى الظاهر تراه هادئًا ساكنًا وفى الباطن  متوترًا عصبيًا.. يمارس هوايته المفضلة فى النفاق والحقد.. يعيش ذليلاً إلى النهاية.

الشاعر الكبير «إبراهيم ناجى» واحد من أصحاب الجينات الأصلية ممن وهبوا حياتهم للنور بداخلهم.. واحد ممن جاءتهم نقطة التحول فصمد.. وانتصر لأخلاقه وثقافته وعزة نفسه فلم يطأطأ رأسه ولم ينحن.

فى الظاهر شاعر كبير تغنت له أم كلثوم بالأطلال.. وظل  أحد أهم رموز الغناء المصرى فى عصره الذهبى، وفى الباطن مرهف الحس مات كمدًا بسبب أصحاب الجينات الخبيثة الذين وشوا به بعد ثورة 1952 ليعيش مأساة حقيقية وأوجاعًا انتهت بإدراج  اسمه فى قوائم التطهير لتزداد مأساته  وتستمر حتى موته كمدًا.

وترتب على قائمة التطهير أن فصل الدكتور «ناجى» من عمله كمدير للإدارة الطبية بوزارة الأوقاف وأصبح - فى عرف الدولة الجديدة - شخصًا يستحق التطهير فقد كان فى الظاهر معاديًا لها  وللثورة أو هكذا اتهموه.. وفى الباطن الدكتور ناجى لم تكن له أى اهتمامات سياسية ولا كان من أركان الإذاعة ولم يعمل بها.

أصحاب الجينات الخبيثة ممن وشوا بالدكتور إبراهيم ناجى فى الظاهر تصرفوا بجهل شديد وخلطوا بينه وبين الشاعر محمود حسن إسماعيل، لأنه صاحب ديوان «الملك» وهو نفسه كان  من أركان الإذاعة المصرية وقتها.. وفى الباطن  بسبب هذا  الخلط المقصود جهلا، أصيب الشاعر الرقيق إبراهيم ناجى فى مقتل دون أن يكون له أى ذنب.

«ناجى « فى الظاهر ابتسم بسخرية من هذا الظلم البيّن ومن قرار فصله من عمله، وفى الباطن وهب حياته للفقراء.. افتتح عيادته فى شبرا ليعالج الفقراء مجانًا ويمنحهم ثمن العلاج.. لكنه لم ينسى أبدا الظلم فأصيب باكتئاب لازمه إلى آخر يوم من وفاته، وظل لآخر يوم فى عمره يسأل  وما ذنبى حتى يوضع اسمى فى قائمة التطهير دون أى مسببات أعاقب بفضلها؟!

«إبراهيم ناجى» تعرض للظلم حتى بعد وفاته 1953.. فى الظاهر قررت الدولة أن تطبع المجموعة الكاملة لشعره، وهنا تصدى الشاعر صالح جودت مع زميلين هما أحمد رامى ومحمد ناجى «شقيق الشاعر وكان ضريرًا» وأحمد عبدالمقصود هيكل بوصفه ناقدًا، وأصدروا ما وصفوه بأنه المجموعة الشعرية الكاملة لناجى. 

وفى الباطن كان صدور هذه المجموعة فضيحة مجلجلة، فقد  ضمت ديوانًا كاملًا للشاعر كمال نشأت وبعض قصائد لشعراء آخرين، عدا أنها خلت من كثير من شعر ناجى.. وتسببت هذه الفضيحة فى دعوى عرضت على المحاكم وانتهت بمصادرة الديوان المعيب.

«نقطة التحول» فى حياة الدكتور إبراهيم ناجى رغم قسوتها فى الظاهر إلا أنها  فى الباطن كانت الدافع الحقيقى للمزيد من الأشعار الجميلة.. الدافع للمزيد من مساعدة الناس والتفرغ لعلاجهم ومساعدتهم.

أعلم أن تلك اللحظة التى تصنع فارقًا فى حياتك قادمة آجلًا أم عاجلاً، فى الظاهر قد تكون مؤلمة.. لكنها فى الباطن ستعيد  تشكيل حياتك من جديد، تعيد صنعك أنت نفسك، بها تكتشف ذاتك الحقيقية، تكتشف الكثير الذى لم تكن تنتبه إليه من قبل.