
هند سلامة
المهرجان القومى للمسرح.. موسم تجريف الإبداع!
عادة ما يقاس مدى تطور الأمم وازدهار حضارتها بازدهار الفن والثقافة بها، لذلك نطلق دائمًا على الفن والثقافة مصطلح «القوة الناعمة»، التى يتم بناؤها بالعمل والتراكم لصناعة المستقبل، وحتى تستمر وتعلو هذه القوة والريادة لابد من الاهتمام بصناعة المستقبل وبالمداومة على ضخ الدماء الجديدة، وإلا فقدت الدولة تلك القوة والريادة بمرور الزمن وسرعة إيقاع الحياة والوقت.
هذا المستقبل يتجسد فى الشباب القادرين على الإبداع والخلق، يشارك فى كل عام ضمن فعاليات المهرجان القومى للمسرح عدد لا بأس به من شباب المسرحيين على اختلاف خلفياتهم الإنتاجية، وينتظر المسرحيون من مختلف الأطياف لقاءهم السنوى بالمهرجان ليتبادلوا فيه أفكارهم وإبداعهم، يسمى هذا اللقاء بالعرس المسرحى السنوي، لكن أصبح ينقلب هذا العرس إلى ميلودراما فنية مع نهاية دورة كل عام، خاصة خلال الأعوام الأخيرة، موجات غضب ومذابح ترتكبها لجان التحكيم فى حق عدد كبير من الشباب باسم الفن واختلاف الأذواق التى تتفق غالبًا على عروض مسرحية أقل إبداعًا وجودة من المطروح على الساحة أو المشاركة بنفس حلبة التسابق، يتوقف الأمر ويتعلق بمدى قدرة اللجان على تذوق هذا الفن، وهذا أمر لا خلاف عليه لسنا ضد أعضاء اللجنة الموقرة ومع الاحترام الكامل للرؤية والذائقة الفنية للجميع، إلا أن هناك معايير واضحة وحدًا أدنى للجودة ورؤية تحكم منطق اختيار وتفضيل عرض عن آخر، ثوابت لا نختلف عليها جميعًا، حتى لا تكون النتيجة تجاهلًا وازدراء عدد كبير من الأعمال المستحقة للفوز فى مقابل منح أعمال أخرى متوسطة الجودة أو متواضعة فنيا أو كانت لا ترقى إلى المنافسة من الأساس، لمجرد خروج بعض الجهات الإنتاجية مرفوعة الرأس من حلبة التسابق سواء استحقت هذا الفوز أو لم تستحق.
ترتبط فكرة التنافس دائمًا بالقدرة على تقديم الجديد والمتطور، وفى المسرح بالقدرة على صناعة الدهشة وطرح أفكار أو استخدام عناصر مسرحية جديدة أو تقديم أعمال متقنة الصنع وبالتالى التسابق ظاهرة صحية لبقاء حياة مسرحية سوية قادرة على الخلق والتطوير باستمرار، بينما ما تفعله اللجان وما يتعرض له عدد كبير من الشباب من تجاهل، يهدم معايير الشفافية والحياد التى من شأنها أن تجعل المنافسة نموذجًا لضمان حياة مسرحية حية وقوية، قد يفسد هذا الشكل من التسابق القائم على معايير حكم بعيدة عن الجودة والتجديد والابتكار الحياة المسرحية فى مصر، وليست هناك مبالغة إذا أطلقنا على أن ما يحدث شكل من أشكال «تجريف الإبداع» فبدلًا من أن يكون المهرجان القومى مخفزًا أصبح موسمًا لخنق إبداع الشباب.
عندما يتعرض هذا الكم من الشباب المشارك ضمن فعاليات المهرجان بعروض متنوعة فى صناعة الشكل والصورة والكتابة المسرحية والتمثيل والتعبير الحركى، لإحباط شديد بعدم ذكره ضمن المرشحين أو ترشيحه لعدد من الجوائز دون الحصول على واحدة، وكأن هناك حالة من التوجه لتصعيد الأعمال الأقل جودة وإبداعًا على حساب أخرى تستحق وبجدارة، وكأن لجان التحكيم على اختلاف أفرادها فى كل عام تترك رسالة ضمنية بأنها ضد كل موهوب ومتقن على مستوى الصناعة الفنية، وبالتالى تدعو هؤلاء للتوقف عن التفكير والتطوير!
بهذا الفكر فى إدراة المشهد المسرحى قد نفقد معه مستقبل عدد كبير من هؤلاء المبدعين بتهجريهم من الساحة الفنية أو قد يدفع هذا الإحباط إلى تحويل الجميع نسخ مكررة ممسوخة ثابتة عند مستوى محدد من الخيال، وليس فى الإمكان أبدع مما كان، لأن الأشكال المسرحية النمطية تنال إعجاب المحكمين، وبهذا الترتيب مع هذا التراكم المرعب قد تفقد مصر فى الخارج شيئًا من قوتها وريادتها الدائمة، أزمة كبيرة قد يتسبب فيها التحكيم فى الحقل المسرحي، الذى لا يتوقف عند مجرد دورة وانتهت، بينما تبقى آثاره السلبية على مدار سنوات تالية، التى قد تفسد جيلًا كاملًا من الشباب وبالمقابل تفسد الذوق العام طالما السائد هو الأقل دائما!