الخميس 25 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
الإخوان من «عقدة التنظيم» إلى مسارات «التيار الفكرى»

الإخوان من «عقدة التنظيم» إلى مسارات «التيار الفكرى»

ثمة تغييرات استراتيجية يجرى تنفيذها فى عمق جماعة الإخوان، منذ صعود إبراهيم منير إلى قمة المشهد التنظيمى، وسيطرته الكاملة على الملفات الدولية والمحلية على سواء، والتى تم تسريب بعض مضامينها من خلال ما عرف بـ»وثيقة لندن»، أو «خارطة طريق التوافق الوطنى بمصر».



تعتبر «وثيقة لندن»، التى تم إقرارها فى مايو 2021، المحرك الأساسى وراء اشتعال الخلافات بين جبهة إبراهيم منير المتحصنة فى الداخل البريطانى، وبين جبهة محمود حسين، المرتكزة فى العمق التركى، والتى تم تصديرها للرأيين العام الإقليمى والدولى على أنها صراعات حول الأموال والسلطة، لكنها فى الحقيقة خلافات حول تمرير الاستراتيجيات الجديدة داخل التنظيم ، إذ إن الخلافات الداخلية على الملفات المالية والإدارية حالة مستمرة وليست طارئة على الجماعة منذ تأسيسها على يد حسن البنا. 

يتمثل الصراع الحقيقى فى تمرير استراتيجية الانتقال من خانة «الهيكل التنظيمى» التى وضعها حسن البنا، إلى ساحة «التيار الفكرى» الجارف، والتخلص نهائيًا من عبء التنظيم، الذى يعتبر حائلًا أمام التماهى مع قضايا وإشكاليات المجتمع دون بناء جدار تنظيمى عازل، على غرار التيارات السلفية التى تتحرك بحرية تامة دون خسائر بشرية أو مادية.

اختيار إبراهيم منير لتولى منصب القائم بأعمال المرشد، لم يكن عشوائيًا، فى ظل تجاهل قيادات لها ثقل تنظيمى أمثال محمد البحيرى، ومحمود حسين، لكنه اختيار جاء بتأييد من المخابرات البريطانية، التى تتحكم كلية فى الجماعة التى صنعتها فى عشرينيات القرن الماضى، ومازالت تدعم مشروعها، وتعيد ترتيبات أولوياتها وأهدافها طبقًا لطبيعة المرحلة السياسية وتغيراتها إقليميًا ودوليًا.

تمرير الاستراتيجية الجديدة للتنظيم الدولى من شأنها نقل الثقل السياسى والتاريخى للمشروع الإخوانى من القاهرة إلى لندن رسميًا، واعتبار «إخوان مصر» فرعًا من التنظيم الدولى وليس العكس، الأمر الذى يلقى رفضًا قويًا من قبل شيوخ الجماعة،لاسيما المتواجدة داخل السجون، ولديها تحفظات على تلك الخطوة، وفقًا لما تم تسريبه عبر «قسم الأخوات»، ودعمهن الملحوظ لجبهة محمود حسين.

من ضمن أولويات استراتيجية التنظيم الدولى الجديدة، تطبيق سياسة الاكتفاء والانكفاء التنظيمى، أو ما تعرف بـ«سياسة غلق التنظيم»، وعدم التفكير مطلقًا فى التوسع فى ضم نماذج بشرية جديدة، فى ظل مرور الجماعة بنوع من تجفيف منابع الاستقطاب والتجنيد إجباريًا، والإبقاء على بقايا التنظيم تحت مسمى «جمع الشمل»، تفاديًا لحالة الانهزامية السياسية التى تحاصر قياداتها وقواعدها الشبابية، فضلًا عن حالة التفكك والتفلت التى انتابت كيانها الداخلى. 

تجربة وصول الإخوان للحكم وسقوطها المروع ترجمت لدى القائمين على المشروع، أن الجماعة كانت تحرث فى الماء على مدار 90 عامًا، وأن جهدها وخططها فى الانتشار والتغلغل داخل المجتمعات العربية تحولت هباءً منثورًا، ولم تجن منها شيئًا، لا سيما أنها خسرت قواعدها التنظيمية، وممتلكاتها ومشاريعها الاستثمارية بسهولة متناهية فى إطار المصادرة القضائية، بالتوزاى مع تفكك حواضنها الفكرية فى عمق الشارع العربى.

تخلى الإخوان عن الحالة التنظيمية والانتقال لحالة «السيولة الفكرية» أو ما يعرف بـ«التيار الفكرى» الجارف، ليست بالهينة، إذ إنها اعتمدت طول تاريخها على فكرة الاستقطاب والتجنيد التنظيمى، وإدارة الجماعة وفقًا لضوابط هرمية، تمكنها من التحكم المطلق فى العلاقة الانسجامية بين قياداتها وقواعدها العامة.

انتقال المكون التنظيمى إلى ساحة التيار الفكرى، يرجع إلى بعض الأصوات التى تنادى بضرورة الانفتاح على المجتمعات مع إسقاط الجدار التنظيمى، وصياغة خطاب ينتقل من المحلية إلى العالمية، من خلال تأسيس كيانات تنفذ مسارات «القوة الناعمة»، التى تقوم بتغذية ومخاطبة الرأى الجمعى للمجتمعات العربية، وفقا للأدبيات والأطروحات الإخوانية دون الدعوة للانتماء أو الاصطفاف التنظيمى.

 تمثل أهم محطات هذه الاستراتيجية بناء المؤسسات الثقافية والأكاديميات الفكرية وصناعة كوادر نخبوية تحمل توجهات الإسلام الليبرالى، بهدف السيطرة على الشريحة العمرية الجديدة التى يتم مغازلة أفكارها ورؤيتها «عن بعد» من خلال كاتبى الروايات الخيالية والأدبية، وبرامج التنمية البشرية، التى تنشر إرهاصات المحتوى الفكرى الأصولى.

منها على سبيل المثال لا الحصر، «معهد منهاج للفكر والثقافة»، الذى أُسّس كمبادرة شبابية من داخل الأردن، ويهتم بنشر الأدبيات الفكرية الإخوانية بين الشباب، عن طريق دورات ثقافية وتربوية، فى حال أقرب إلى الجلسات واللقاءات التنظيمية المعروفة تحت مسمى «الأسر والكتائب»، وكذلك «الأكاديمية الدولية» للتنمية البشرية، ومنصة «جدران» الثقافية، ومنصة «ديوان الأزهر» للعلاقات للدارسات الإسلامية باسطنبول وتستهدف التأثير فى أبناء الأزهر الشريف، ويشرف عليه محمد العقيد الملقب بـ«الرجل الأسود».

وكذلك مؤسسة «شبكة محررى الشرق الأوسط وشمال إفريقيا» MENA EDITORS ، فى لندن كشركة غير ربحية برقم (11579456)، وتم افتتاح فرع لها فى النمسا تحت رقم (1643702166)، وفرع ثالث تابع لاتحاد الجمعيات الأهلية فى تركيا (أحد كيانات التنظيم الدولي)، برقم (34-263/068)، وفرع رابع بدولة تونس، وفرع خامس فى دولة المغرب.

فى ظل الارتباك الفكرى والتخبط التنظيمى، انتقلت الجماعة فعليًا إلى حالة «التيه»، المصاحب للانهيار التام، ما دفعها للتقوقع أو للتعايش مع ظاهرة «الكمون التنظيمى»، معتمدة على استراتيجية «دار الأرقم»، أو ما يُطلق عليه «التربية والدعوة السرية»، فى محاولة لصناعة تكوينات فكرية جديدة، تعيد من خلالها صياغة الإشكاليات والعثرات التى لحقت بها على المستوى السياسى والاجتماعى والتنظيمى.

تدرك جماعة الإخوان وقواعدها أنها لم تعد أحد مكوّنات الحالة السياسية المصرية، وأنها لن تصبح رقمًا فى معادلة الحكم لمرحلة زمنية طويلة، بناءً على ترتيبات المشهد السياسى الجديد، وفى ظل «الجمهورية الجديدة» التى تضع ضمن توجهاتها القضاء التام على أى مرتكزات إخوانية فى مفاصل الدولة المصرية عبر تشريعات قانونية ودستورية.

ترى الاستراتيجية الجديدة للتنظيم الدولى، أن المشروع الأصولى عليه أن يعدل من آلياته ووسائله المتبعة فى عمليات الاستقطاب والتجنيد، وفقًا للأهداف الجديدة، وعدم التركيز على الوسائل التقليدية فى تنفيذ سيناريوهات «أسلمة المجتمعات»، إذ إنها لم تعد فى حاجة لمزاحمة النظام السياسى الحكام فى السيطرة على مؤسسات الدولة وتطويعها، لا سيما فى ظل انفتاح الساحة أمامها فى احتلال الفضاء الأزرق بمختلف تنوعاته (السوشيال ميديا).

إشكالية التحول من التنظيم الهرمى، إلى التيار الفكرى، لم يكن طرحًا جديدًا لكنه دار فى خلد  قيادات (إخوان القاهرة)، عقب سقوط نظام مبارك، فى محاولة لتطبيق سيناريو الإخوان فى قطر، وتفعيل قرار حل التنظيم نهائيًا على اعتبار أن هوية الدولة المصرية تسير فى طريق التماهى مع هوية المشروع الإخوانى، وتحويل مؤسسات الدولة لكيانات تابعة للجماعة بشكل غير مباشر، ومن ثم اتخذت مجموعة من القرارات حينها أهمها، تطبيق سيناريو «غلق الهيكل التنظيمى»، لمدة 5 سنوات،  وفتح الباب أمام عضوية حزب «الحرية والعدالة»، وتفعيل مشروع «إخوان ما قبل التمكين»، الذى يمنح العناصر الأصلية الكثير من الحقوق والمكاسب، فى مقابل «إخوان ما بعد البعد التمكين».

مشروع غلق التنظيم وتخفيف أعبائه، طرحته قيادات التنظيم الدولى نهاية عام 2016، على القائم بأعمال مرشد الإخوان، الدكتور محمود عزت (مقبوض عليه فى أغسطس 2020)، فضلًا عن إبراهيم منير، ويوسف ندا، ومحمود حسين، وأنس التكريتى، بناءً على مجموعة من الدراسات البحثية التى تناولت إعادة تقييم المشروع الإخوانى بشكل عام فى ظل سقوطه المدوى، ومحاولة إعادة تصحيح موقف الجماعة، والسعى لخلق تيار فكرى، (لكن تم تأجيل البت فيها). 

فى منتصف عام 2018، تم الترتيب لعقد ورش بحثية حول مشروع تفكيك التنظيم الإخوانى، تحت إشراف ياسين أقطاى سكرتير التنظيم الدولى ومسشار الرئيس أردوغان إذ تم تخصيص 4 فيلات فى مدينة «أزمير» التركية، وتناولت الخطوط والمسارات التى يجب أن تراعيها الجماعة فى ظل المتغيرات السياسية، مبينة أن السيولة الفكرية، تمثل الحالة الأقرب إلى المنهجية الأصولية واستمرارية وجودها.  

ملامح اللقاء التنظيمى -وفقًا للوثائق التى بين أيدينا-، اقترحت مشاركة (58)  قيادة ممثلين عن عدد من الأقطار العربية والغربية، مقسمين كالتالى: (11) قيادة مصرية، و(9) قيادات من دولة الكويت، و(8) شخصيات من دولة اليمن، و(5)  قيادات تمثل دول الخليج، و(3)  شخصيات من دولة السودان،  و(4)  قيادات تمثل دولة سوريا، و(5) قيادات من لبنان، و(2)  من دولة باكستان، و(7)  يمثلون عددًا من دول أوروبا.

كان كل من الدكتور عبدالله النفيسى، والدكتور محمد المأمون المحرزى، القيادات التاريخية بجماعة الإخوان سابقا، تناولا فى الكثير من لقاءاتهما الإعلامية،  قضية فك التنظيم الإخوانى، وطرح مفهوم التيار الفكرى العام، معتبرين أن التنظيم بمثابة كيان تاريخى، لكنه تحول إلى عبء على الحالة الأصولية والسياسية العربية بشكل عام، وأن التجربة القطرية كانت رائدة فى هذا المجال، عندما قرر «إخوان الدوحة»، فك التنظيم نهائيا بناء على دراسة بحثية، قدمت تحليلًا وافيًا عن تداعيات التنظيم ومستقبله، وانتهت الدراسة- لم تنشر حتى الآن ـ إلى حل التنظيم عام 1999، والتحول إلى تيار فكرى واسع يستهدف عموم المجتمعات العربية.

اعتبرا النفيسى والمحرزى، أن جماعة الإخوان تحولت إلى إسفنجة تمتص كل الطاقات وتجمّدها، وأن الإشكال الأساسى لديهم يتمثل فى فقدان الرؤية السليمة فى التعامل مع  قضايا المجتمع والانشغال بالسيطرة على مؤسسات الدولة دون الانتباه إلى صناعة مرتكزات وحواضن منهجية فكرية تتسم بالمدى البعيد والتأثير فى مختلف الدوائر المجتمعية والشعبية.

موضحين أن المرحلة التاريخية التى نشأت فى ظلها جماعة الإخوان قديمًا لم تعد قائمة الآن، وأن الظروف الموضوعية فى مصر ربما بررّت نشوء وقيام جماعة الإخوان فى وقتها 1928، وأن القاهرة فى وضعها الحالى، ليست فى حاجة إلى هذا الشكل أو هذا الإطار الحركى.