الخميس 9 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
لغة الجينات 76

لغة الجينات 76

«الوقار» ستر.. إذا انكشف تعريت.. وإذا تعريت أهنت.. وإذا أهنت ضاعت هيبتك.. «الهيبة» فى الظاهر يمكن تحقيقها من خلال جمع المزيد من المال والثروات، أو الحصول على منصبٍ فاخرٍ، أو ترقية وظيفية، أو جاه..وفى الباطن هى منحة ربانية لأصحاب الجينات الأصلية.. جدية تعامل بحزم مع الأمور المهمة والمواقف الحقيقية، ومرونة ويسر وترفع عند التعامل فى المواقف العادية.



«الوقار» من الجينات التى لا يعرفها صاحب الجينات الخبيثة ممن أدمنوا التطفل وحشر أنوفهم فيما لا يعنيهم، من يقومون بأعمال دنيئة خبيثة ويسمحون للناس بإهانتهم.  «الوقار» عند صاحب الجينات الأصلية مثل حسن طوبار هو تحمل المسئولية تجاه كل الأمور والمواقف... فخر وعزة نفس..دفاع بشرف عن أهله وناسه حتى لو دفع الثمن غاليا. «حسن طوبار» فى الظاهر كان شاب ثرى مترف ورث من والده الشرف وعزة النفس وينتسب لأسرة عريقة بالمنزلة فى محافظة الدقهلية.. وفى الباطن ثائر شجاع تصدى للفرنسيين ومن قبلهم المماليك دفاعا عن أهل بلده.. زعيم شعبى وقائد محرض لأعنف مقاومة شعبية ضد الحملة الفرنسية 1798م.

«حسن طوبار» فى الظاهر توقَّفت رحلة تعليمه مبكرًا مع وفاة والده، واكتفى بما ناله من علم فى الكُتَّاب، ليتولى شئون أسرته ورعايتها...وفى الباطن قائد بالفطرة محبًّا للشعر، واسع الثقافة.. جمع الناس حوله ليحارب الفرنسيين ويمنعهم من تدنيس بلده.

«ثورة طوبار» ضد الفرنسيين فى الظاهر كانت هى البداية فى مسيرته الرافضة للظلم، وفى الباطن ساءت علاقته بالمماليك قبلها بسنوات، ووقف رجلا فى وجه فرض الإتاوات والضرائب الباهظة واهانة الناس وسجنهم بلاحق أو قانون... وكان شديد الولاء لأهل بلده مخلصًا لهم، شديد العداء للمماليك، وتصدى لهم فى المنزلة بكل حزم.

«طوبار» فى الظاهر ثرى مترف لن ترهقه ضرائب ولن يفرض عليه أحد إتاوة.. وفى الباطن لم يتردد فى عام 1795م فى الانضمام إلى حركة شيوخ الأزهر ضد ظلم المماليك الذين حاولوا اعتقاله عدة مرات بعد أن بات شوكة وعقبة كبيرة فى طريق هدفهم الأسمى جمع المزيد من الضرائب.

«طوبار» قاد بشرف المقاومة ضد الفرنسيين والتى كانت باعترافهم أكثر شراسة وفتكًا بعساكرهم... كان قائدًا وشيخًا لم ينتظر تدخل الفرنسيين فى المنطقة التى يسيطر عليها، فسارع بمَدِّ الثوار بالسلاح، وقام بتنظيم المقاومة البحرية فى المنزلة.. حتى اشتعلت نار الثورة فى مختلف البلاد الواقعة بين المنزلة ودمياط والمنصورة.

«طوبار» فى الظاهر كان يستطيع أن يكتفى بمد الثوار بالمال والسلاح خوفا على نفسه وأملاكه الشاسعة.. لكن فى الباطن وبعد شهر واحد على دخول الفرنسيين مصر، وصل الضابط «فيال» مندوبا عن نابليون ليحكم دمياط ليفاجئ الفرنسيين بظهور حسن طوبار قائدًا لحركة التحرير التى اندلعت فى المنطقة، يث استغل تأثيره كزعيم لتلك الجهات وحوَّل منطقته إلى بؤرة من الجحيم، تُحيط بالفرنسيين برًا وبحرًا.

«طوبار» رغم قسوة الفرنسيين واحراقهم لقرى وقتل الناس لم يتوقف.. لم يخف أو يهادن أو يساومهم لنيل رضا بونابرت وضاعف مجهوده للحصول على أسلحة وذخيرة وتجهيز أسطول حربى كبير فى بحيرة المنزلة، وقام بتحويل مراكب الصيد إلى مراكب حربية مزودة بالأسلحة، وقام بتدريب الصيادين وتسليحهم على نفقته الخاصة، وفتح مصانع النسيج التى يمتلكها لتزويد المقاومين بالملابس التى تساعدهم فى القتال. وقرر إرسال عائلته وأمواله إلى غزة حتى لا يشغله شاغلٌ عن معركة التحرير التى بدأها مع الغزاة الفرنسيين.

«طوبار» فى الظاهر لم يدرس فى كلية الحرب ولا يعرف الخطط العسكرية وفى الباطن قائد وداهية استخدم الحرب النفسية ضد الفرنسيين بإطلاق شائعات من نوعية أن السفن الإنجليزية تحركت لاستعادة الإسكندرية... وهى الشائعة التى أشعرت الفرنسيين بأنهم محاصرون داخل مصر فى سجن كبير..فمن الداخل حسن طوبار ورجال المقاومة، ومن الخارج محاصرة بالأسطول الإنجليزى.

«طوبار» مع امتداد شعلة الثورة إلى مدينة دمياط، وانضمام عدد كبير من أهالى الشرقية والمنصورة خطط فى سرية تامة للهجوم على الفرنسيين فى دمياط، واستعدت مراكبه الشراعية فى بحيرة المنزلة لذلك.

وتواكب مع ذلك تحركٌ برى من الأهالي، وفى ليلة 16 سبتمبر 1798م تحركت سفن طوبار ومعه جموع الثوار، وأبحر بأسطولٍ يضم 150 سفينة مسلحة، راحت تشق البحيرة قاصدة شواطئ دمياط.

وفى الفجر وصلت السفن إلى قرية غيط النصارى بالقرب من دمياط، وتبعُد عن تمركز الفرنسيين بقرابة 20 كم... وهناك التقى الفلاحون القادمون من القرى بالثوار الهابطين من السفن، وكانوا مسلحين بالرماح والبنادق.. واجتمعوا للقتال ضد الفرنسيين.

«معركة شرسة» قادها طوبار بجيش من الفلاحين والصيادين استمرت يومين كاملين، بعدها انسحب القائد الفرنسى «فيال» وعبر للضفة الثانية من النيل، لإعادة ترتيب جنوده وانتظار الدعم القادم من المنصورة.

«طوبار» أشعل الثورة فى نفوس الجميع فتعدَّدت حوادث مهاجمة الثوار للسفن الفرنسية المُقِلَّة جنودًا فى النيل، وكانت قرية «ميت الخولي» الأكثر تصديا للسفن الفرنسية، وقام أهالى عزبة البرج بقتل جميع أفراد الحامية الفرنسية، وعددهم 20 جنديًّا، وخرج شبابها وشيوخها بمراكبهم قاصدين عكا، خوفًا من انتقام الفرنسيين!

«نابليون» أدرك سريعا أن الأمر لن ينتهى فخطط فى الظاهر لاستمالة «حسن طوبار» وفى الباطن كان يساوم لكسب المزيد من الوقت من أجل تقوية المراكز الفرنسية فى دمياط والمنصورة، تمهيدًا للقيام بهجوم كاسح على حسن طوبار ورجال المقاومة.

وكلَّف نابليون قائده»فيال» بأن يُرسل أموالا وهدايا إلى حسن طوبار، تمهيدًا للتفاوض معه...حاولوا بكل الطرق استمالته إلا أنه ظل رجلا شجاعا مدافعا عن أهله ووطنه رافضا الصلح رغم كل الإغراءات.

«طوبار» بعد مقاومة شرسة تم القبض عليه وتم وضعه فى سجن القلعة بالقاهرة عدة أشهر وعند عودة نابليون من حملته على الشام طلب لقائه.. وأفرج عنه بشرط أن يظل ابنه أسيرا لدى القوات الفرنسية بالقاهرة ضمانا لعدم قيادته لثورة أخرى.

فى الظاهر طوبار وافق على شروط بونابرت وبدا ساكنا تماما فى بلدته وفى الباطن ظل يدعم الثوار بالمال والسلاح ويُعطى الفرنسيين معلومات مغلوطة عن الثوار.

ألم أقل لكم إن الوقار هيبة..وإن صاحب الجينات الخبيثة لا وقار له ولا هيبة.