الجمعة 29 نوفمبر 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
شكرًا وزارة الثقافة.. صون الهوية بتسجيل الخط العربى فى اليونسكو

شكرًا وزارة الثقافة.. صون الهوية بتسجيل الخط العربى فى اليونسكو

عرفت الأمة العربية كيف تؤصل لتراثها الخالد باللغة العربية، بل تبدع فى كتابتها بالخط العربى؛ الذى فاق كل فنون وتصميمات الكتابة فى مختلف اللغات، لتميزها بكونها متصلة مما يجعلها قابلة لاكتساب أشكال هندسية مختلفة من خلال المد والاستدارة والزوايا والتشابك والتداخل والتركيب؛ واقترانها بفنون الزخرفة العربية «الأرابيسك»؛ واستخدمت لتزيين المساجد والقصور، وتجميل أطر الصفحات فى المخطوطات وخاصة القرآن الكريم، الذى أقسم فيه الله عز وجل بالقلم والكتابة فى قوله تعالى «ن والقلم وما يسطرون». ولنا أيضًا أن نستحضر ما قاله ابن خلدون فى مقدمته «الخط هو ثانى مرتبة من مراتب الدلالة اللغوية، وجودة الخط تدل على مدى التقدم والعمران والحضارة»، لذا.. برع فى مجال الزخرفة كثير من الفنانين.



وكانت مصر صاحبة الريادة فى هذا المجال؛ وأول من قطعت باعًا طويلًا فى مجال إبداعات فن الخط العربى؛ بدءًا من عهد الملك فؤاد الذى قام باستقدام الشيخ عبدالعزيز الرفاعى من تركيا فى عام ١٩٢١م،  فقام بكتابة المصحف الشريف فى ستة أشهر وذهَّبه وزخرفه فى ثمانية أشهر أخرى، وبعد عام أصدر الملك أمره بتأسيس مدرسة للخط العربى، وكان على رأس مدرسيها الشيخ عبدالعزيز الرفاعى، وقد تخرجت أولى دفعات هذه المدرسة فى عام ١٩٢٥م، وكان لهذه المدرسة الفضل فى تخريج كوكبة من نوابغ هذا الفن، وكان فى مقدمتهم الخطاط النابغة سيد إبراهيم فذاع صيته وتهافتت عليه المعاهد العلمية والفنية ليقوم بتدريسه، وتخرجت على يديه أجيال من الخطاطين المصريين والعرب والأجانب، وهناك العشرات من الفنانين الأفذاذ فى مجال فنون الخط العربى الذين برعوا واستعانت بهم دور النشر، وخصصت لهم مكتبة الإسكندرية العديد من الموسوعات التى تؤرخ لفنونهم وتراثهم ليثرى المكتبة العربية والعقل العربى، وهم كثُر على الساحة الثقافية المصرية.

ولست بصدد استعراض تاريخ نشأة هذا الفن لكنها مجرد لمحة حيث تحضرنى مقولة لعالمة اللغويات الجليلة د.وفاء كامل فايد وهى أول سيدة تحصد عضوية مجمع الخالدين، حين وجه إلى أحدهم تعليقا على مقال لى على صفحتى على موقع التواصل الاجتماعى الفيسبوك حديثا ينطوى على استياء شديد من استخدام الحروف اللاتينية بدلا من العربية، قائلا: «يا دكتورة انا شوفت مجلة كاملة من الجلدة للجلدة مع واحد صاحبى فى عربيته مكتوبة بالعربى بالحروف اللاتينية». فإذا بالدكتورة وفاء تسارع وتسبقنى بالرد عليه بمنتهى الضيق والغيرة على لغتنا الجميلة معلقة بقولها:

   «هذه هى المؤامرة المتكاملة للقضاء على ثوابتنا: اللغة والثقافة واستخدام الخط العربى، فهم يحرصون على إبعادنا عنه لكى ننعزل عن تراثنا العربى المتطاول الذى يفوق عمره أى تراث أجنبى آخر. تفكيك الأمة العربية هدف التحالف الاستعمارى الآن، ومصر بالذات شوكة فى حلقهم بعد أن تساقطت أكثر من دولة عربية حولها. اللهم إنا نستغيث برحمتك أن تنقذنا من الضياع وترد كيد الكائدين».

تبادر إلى ذهنى هذا كله لحظة أن عرفت بالنصر الثقافى الجديد الذى أعلنته وزارة الثقافة مؤخرًا فى هذا المضمار المهم  لواحد من أهم ثوابت اللغة العربية وهو الخط العربى؛ وكأن الأقدار قد استجابت لدعوة أستاذتنا الدكتورة وفاء كامل؛ ولمجهودات حماة اللغة والتراث الثقافى المخلصين. وتحقق هذا النصر لمصرنا الحبيبة فى حماية رافد من أهم روافد لغتنا المستهدفة، حيث خاضت مصر، بجهود مضنية لأبنائها من العلماء الوطنيين الشرفاء الذين يعشقون تراب هذا البلد ولا يألون جهدا فى إنفاق الوقت والجهد والعرق فى سبيل رفعته والحفاظ على هويته خطوة مهمة ،حققت بها النجاح فى تسجيل الخط العربى على قوائم التراث الثقافى العالمى غير المادى باليونسكو، الذى عبرت عنه وزيرة الثقافة الدكتورة إيناس عبدالدايم فى كلمتها ووصفته بأنه: إنجاز جديد لمصر فى مجال صون الهوية باعتبار الخط من أهم مفردات الحضارة العربية، وإحدى الوسائل الفاعلة فى التعريف بها مما يسهم فى الحوار بين الثقافات العالمية، ويدعم جهود إلقاء الضوء على تاريخها، وذلك عبر جهود وزارتى الثقافة ووزارة الخارجية ووفد مصر لدى اليونسكو وهو الملف السادس الذى تم تسجيله بعد (السيرة الهلالية، والتحطيب، والأراجوز، والممارسات المرتبطة بالنخلة والنسيج اليدوى بالصعيد)، وذلك ضمن اجتماعات اللجنة الحكومية الدولية وبحضور جميع الدول الأعضاء. 

نجحت مصر فى نيل هذا التسجيل بالتنسيق مع دول السعودية، ولبنان، والأردن وتونس وذلك بعد تقديم ملف شاركت مصر فى إعداده مع 16دولة.  

وقد عمت الفرحة الوسط الثقافى كله بإحراز هذا النجاح وتحقيق هدف عالمى للغتنا فى مرمى شبكات عالم اللغات والحروف والخطوط وهى خطوة رئيسة للحفاظ على اللغة العربية من الاندثار فى ظل الاستخدامات الحديثة التى فرضتها مستحدثات الحضارة والتكنولوجيا فى التواصل بين الناس مما يهدد لغتنا العربية بالضعف والانهيار إذا لم تتخذ خطوات جادة من المعنيين بحمايتها والقائمين عليها لإنقاذها من براثن الاستعمالات الخاطئة وإهمال ركائزها التى تقوم عليها.

وها قد ظهرت جهودهم المشكورة على السطح بأن كللت بالنجاح غير المسبوق فى حماية إحدى هذه الركائز بهذا الشكل المشرف على المستوى العربى والعالمى فى آن معا.

 وختاما تبقى الأمنيات من الإصرار على التنبيه بضرورة الاهتمام بتعليم قواعد وأصول الخط العربى للأجيال الصاعدة؛ حتى لاتصطدم أعيننا بتلك الخطوط الرديئة التى تشبه ما يسمونه من قبيل التعبير عن الفجاجة والقبح بـ«نكش الفراخ»، والعمل الجاد على ضرورة العناية فى كتابة الحروف العربية بما يليق بها من إجلال واحترام؛ لأنها همزة الوصل بين القارىء واللغة العربية. وفى اعتقادى أن هذا الاهتمام لن يتأتى إلا بفتح المجال أمام كل الراغبين فى الاندماج مع هذا الفن الراقى، وتسهيل الانتماء أو الانتساب إلى مدارس ومعاهد تدريس وتعليم فنون الخط العربى بكل أشكاله الجمالية وألوانه المتعددة، فالخط العربى جماليًا له قواعد خاصة تعتمد على التناسق والتناسب بين الخط والنقطة والدائرة، ويعتمد على كل العناصر الفنية التى تستعين بها الفنون التشكيلية من الكتلة والفراغ، مما يجعل الخط العربى لوحة فنية تتهادى عين القارىء عليها فى انسيابية؛ كما يتهادى القارب على صفحة الماء الرقراق فى ضوء القمر. وكم رأينا من لوحات فى فنون الخط العربى تزدان بها القاعات الكبرى والقصور، تنقل إلى مشاهديها المزيد من الراحة لمجرد وقع العين عليها والتمعن فى إبداعات الفنانين العظماء، الذين جعلوا الحروف العربية تنطق بكل البهاء الذى تستحقه لغتنا العربية ومكانتها الرفيعة بين لغات العالم.

لا يستلزم الأمر سوى ضرورة إدراج تدريس فن الخط العربى ضمن مناهج جميع مراحل التعليم ، وليس قاصرًا على المراحل الأولى من التعليم الأساسى ،بل جعله مادة أساسية يدرسها أساتذة مختصون فيه ؛لتصبح كراسة الخط العربى فى صحبة الدارسين حتى سنوات التخرج من الجامعة ،على أن تنضاف درجاتها ضمن المجموع العام للطلاب فى فن الخط العربى من جميع الفئات والأعمار أسوة ببقية المواد الأخرى ، وتسهيل الحصول بأسعار مخفضة على الأقلام والأدوات الخاصة بممارسة هذا الفن الراقى، لتخريج أجيال تلحق بسابقيها من الفنانين العظماء الذين أعطوا حياتهم لهذا الجمال، فعاشوا فى ذاكرة الأمة خالدين.

ونحن حماة اللغة وبوصفى أنتمى إلى هذه الجبهة أضم صوتى لصوت د.إيناس عبدالدايم فى توجيه الشكر كل الشكر للجنة صياغة الملف وهم الدكتورة نهلة إمام خبير التراث الثقافى غير المادى وممثل مصر به والدكتور هانى الهياجنة (الأردن)، والدكتورة آنى طعمة (لبنان)، والدكتور عماد بن صولة (تونس) والفنان المصرى محمد بغدادى المستشار العلمى للملف.  وشكر جديرة به وزارة الثقافة! فبداية الغيث قطرة وقد انهمرت وسيعم خير كثير!