الجمعة 29 مارس 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
احمد باشا
جابر عصفور.. فارس التنوير الذى راهن على خلود الكتابة

جابر عصفور.. فارس التنوير الذى راهن على خلود الكتابة

فى تجربة الناقد والمفكر الكبير الدكتور جابر عصفور الذى رحل عن عالمنا دروس كثيرة على المستوى المعرفى والإنسانى، فهو واحد من القلائل الذين قدموا نموذجًا علميًا فى الإيمان بالكتابة حتى الرمق الأخير، وقبيل وفاته بأيام كان يكتب آخر مقالاته التى لم يتوقف عنها عبر مسيرة طويلة من العمل والعطاء تزيد على خمسة عقود، فبعد صدور العدد الأحدث من مجلة فصول فى أواخر شهر نوفمبر الماضى كتب قراءة نقدية فى هذا العدد تنم عن إخلاص لمجلة فصول التى ترأس تحريرها من قبل وكان من المؤسسين لانطلاقتها، وتدل على أنه ظل مشغولًا بالثقافة العربية والنقد الأدبى وبأمور الثقافة عمومًا طالما كان بصحة وطالما كان قادرًا على الكتابة والعطاء، ويجب أن يتذكر أى متأمل لمسيرته كذلك أنه واحد من القلائل فى الثقافة المصرية الذين لم تشغلهم المناصب عن مهمتهم الأساسية وهى الكتابة، فبرغم كونه شغل مناصب عديدة لم يكن يتوقف أبدًا عن الكتابة وظل على دأبه وعطائه وظل يكتب بكثافة ويمكن تخيل برنامج عمله اليومى بكثير من الازدحام، ليتضح قدر ما كان لديه من الإرادة والرغبة فى العطاء والإنجاز والإصرار عليهما، ومن يعمل بهذه الطريقة الأشخاص المؤمنون بخلود الأثر الكتابى وفناء أى شىء دون ذلك.



لقد قدم الدكتور جابر عصفور نموذجًا من الحيوية والنشاط والتفاعل المستمر مع الحياة الثقافية وقدم نموذجًا فى الانحياز لعدد من القيم المهمة والراسخة، فهو منحاز لمهنة الأدب ولأدوارها وقيمتها وأثرها الجمالى ودورها التنويرى ويكاد يكون هذا هو الانحياز المهنى الأساسى الذى لا يجد متأملًا صعوبة فى استكشافه، أما الانحياز الثانى فى تقديرى فهو للثقافة المصرية وأدوارها فى المحيطين العربى والإنسانى، فهو رجل منحاز لمصريته وكان ينطلق من هذا الانحياز فى كثير من مشاريعه وعطائه وأعماله، ومن ذلك مثلًا سعيه لأن يستكمل مسيرة العظماء السابقين فى مدرسة الفكر والنقد المصرية وجعل أدوارها ممتدة وبخاصة مشروع الدكتور طه حسين عميد الأدب العربى والمحور الأساسى للعصر الحديث وصاحب الدور المستمر حتى الآن، وكذلك أدواره فى النقد الأدبى على المستوى الإدارى والتنظيمى ونلمح ذلك أيضًا فى دوره فى مجلة فصول وجعلها تنطلق انطلاقات كبيرة ومهمة ومؤثرة فى المحيط العربى وفى النقد الأدبى بكافة الدول العربية، وكذلك فى دوره بالمركز القومى للترجمة الذى أسسه وكان له الفضل فى أن يجعله مؤسسة فى غاية النشاط وذات حس طليعى وانتقائى فيما يطرح ويقدم من اتجاهات الترجمة فى الحقول المعرفية المختلفة.

انحياز الدكتور جابر عصفور لمهنة الأدب والنقد ولأبعادهما الإنسانية دفعه لأن يستكمل مشروع ربط الثقافة العربية بالمنجز المعرفى للحضارة الغربية فى هذا الحقل، وهو أمر مهم لأنه يجعلنا نستمد من عطاء هذه الثقافات الرائدة ونفيد من منجزها ونختصر كثيرًا من الخطوات والجهود فى رحلة تطويرنا للذات وتطويرنا لثقافتنا، فهو واحد من هؤلاء الأعلام البارزين الذين كانوا فاعلين بقوة فى عملية الربط هذه بين الثقافة العربية ومنجز الآخر وبخاصة الحضارة الغربية، وإن كان فى كثير من الأحيان ليحاول كذلك أن يربط بين منجزنا ومنجز الأمم الأخرى فى الشرق مثل اليابان والصين وغيرهما وذلك عبر الانتقاءات والرحلات والسفر وتوجيه بعض تلامذته إلى هذه الثقافات والنقل والترجمة عنها. وهذا الدور فى الربط بالآخر له أهمية كبيرة على المستوى التنويرى كما هو مهم على المستوى المعرفى، فأن يصر عالم على أن يكون جسرًا بيننا وبين الآخر فهذا مما يدعم تطورنا ويدعم السمت العالمى والإنسانى للثقافة العربية ويجعلها تتجاوز الانغلاق على الذات، ونلاحظ أننا كنا نعيش أشد فتراتنا عزلة فكرية وانغلاقًا على الذات وانكفاءً عليها بعد التوسع الرهيب والتغلغل الشامل لروح السلفية بعدما انفتحت أبواب الحياة أمام الجماعات المتطرفة وعلى رأسها جماعة الإخوان الإرهابية، فهذه العقود منذ منتصف السبعينيات وحتى ثورة 30 يونيو هى الفترة التى شهدت عدوان هذه الجماعات الخشن والناعم على الحياة الفكرية والعلمية والثقافية فى مصر والوطن العربى وهى الفترة ذاتها التى كان الدكتور جابر عصفور يؤدى فيها أدواره التنويرية. 

كان الدكتور جابر عصفور متهمًا من قبل الجماعات والرجعيين بأنه مع التغريب ومع الانسلاخ من تراثنا وهويتنا وجذورنا العربية والإسلامية القديمة، وهذه بذاتها مفارقة كبيرة، تدل على قصور النظر لديهم من جانب وقد تدل على انتهازيتهم وحرفيتهم فى  تشويه خصومهم، فالرجل الذى يريد أن يصنع تطورًا فى النقد العربى وأن يجعله مواكبًا للجديد عند الأمم الأخرى لا يمكن إلا أن يكون فى أشد حالات الانتماء والحب للأدب العربى وللغة العربية والثقافة العربية برغم ما قد يرى فيها من السلبيات الكثيرة التى يريد إصلاحها، فهو واحد من المنتمين بقوة كشأن كل الإصلاحيين من الشيخين رفاعة الطهطاوى ومحمد عبده إلى الدكتور طه حسين، وتهمة التغريب من التهم الجاهزة عند هؤلاء المتطرفين وكأننا حتى نكون مسلمين بحق يجب أن نكون فى قطيعة تامة مع الأمم الأخرى ومنجزاتهم العلمية والمعرفية، ويصورون باستمرار أن الأخذ عن الغرب حتمًا سيكون بهدف جلب الكفر والانحلال والدس فى الدين والرغبة فى هدم الثقافة، وكلها مغالطات ربما لم نتصد لها حتى الآن من الناحية العلمية بالتفنيد والجدل والدرس، بدليل أن كثيرًا من الشباب المتحمس ما زال يرى أن الأخذ عن الغرب دليل على الانحلال والانسلاخ من الدين وأنه خطر علينا، ولا يؤمن أغلب هؤلاء الرجعيين فى الجامعات المصرية بالتلاقح الثقافى والمعرفى بين البشر كما آمن به الدكتور جابر عصفور، والغريب أن بعضهم لم يكن يجد مانعًا من التقرب منه ولكن مع الحرص ومع الالتزام التام بعكس كل ما يتبنى من مناهج وأفكار، قد ينافقونه لكنهم يدارون أشياء أخرى تبدو واضحة فى كثير من اتجاهات بعضهم وجهودهم وكتاباتهم المحدودة والفقيرة التى هى اتجاه ألا شىء أو اتجاه الفراغ والجمود، وهذه هى الأخرى ظاهرة موجودة، وليس ضروريًا لمحب لعلم أو مفكر كبير أن يلتصقوا به مكانيًا راغبين فى الظهور أو التسلل إلى المناصب، والمحبة الحقيقية يمكن أن تتحول إلى تلمذة وإلى عطاء وتبنى للأفكار والقناعات العلمية للأستاذ أو الإيمان بالمبادئ العامة له. 

فمن العجب أن يكون قد تحلق حول هذا العالم والمفكر التنويرى العظيم الكثيرون من أهل الجمود والرجعية الأكاديمية وهم بدماثة ورقى عظيم ونبل إنسانى لم يكن يرفض أحدًا، ولا ينفى هذا أنه كان له تلامذة كثيرون ومحبين حقيقيين يضيق المقام عن ذكرهم كلهم وكان دائمًا ما يحثهم على الاجتهاد والترجمة والبحث والاطلاع على أحدث النظريات العلمية والمعرفية والاطلاع على الاتجاهات الفكرية والنزعات الفلسفية الحديثة، مثلما هو حاصل مثلا مع تلميذه المخلص الدكتور طارق النعمان الذى ذهب إلى الإدراكيات وإلى نزعة الفلسفة الحسية أو الجسدية التى تبناها الأكاديميان جورج ليكوف ومارك جونسون وترجم كتابهما المهم الفلسفة فى الجسد وهو كتاب يمثل طفرة جديدة فى الدراسات اللغوية والبيانية والنقدية، وغيرها الكثير من الحالات مثلما جعل تلميذه النابه حسام نايل يترجم التفكيكية وينقل أكثر من كتاب فيها، والحالات كثيرة، فلم يكن مترجمًا أو ناقلًا أو جسرًا لربطنا بالآخر بذاته فقط، ولكن عبر تلامذته ومدرسته كذلك، وهكذا هم الأساتذة الكبار الذين يملكون مدارس ممتدة وكبيرة يكون فيها الصالح والطالح والدخيل والأصيل.

هناك شق مهم فى تجربة الدكتور جابر عصفور وهو حرصه لآخر أيامه أن يتابع الإبداع الأدبى الجديد وظل يكتب عنه حتى النهاية، وبرغم أعبائه وأحيانًا مرضه وبرغم ما قد يتصور الإنسان من تشبع ناقد كبير مثله بالقراءات الممتدة عبر عقود طويلة فهو ظل نهمًا وشغوفًا بالإبداع الأدبى سردًا وشعرًا قديمًا وحديثًا، تراثًا وجديدًا حتى النهاية، وكان يكتب مؤخرًا عن رواية جديدة صدرت لأحد الروائيين الشباب مثلما يمكن أن يكتب دراسة أو مقالة جديدة عن أمل دنقل أو صلاح عبد الصبور، كان حريصًا على أن يتابع الأجيال كافة ولا ينغلق فى دائرة جيله أو الأجيال السابقة وهذه بذاتها درس مهم لأنها دالة على فهمه للحياة وتجددها وأن الإبداع الأدبى لا يتوقف عند حدود أو قيود ترتبط بالسن أو الجيل أو مرحلة زمنية أو عند نوع أدبى معين. 

كان الدكتور جابر عصفور ملتحمًا مع الحياة الأدبية والثقافية بكل ما فيها من حيوية ونبض، وكان يتلمس حتى فى مراحل ضعفها كل ما يمكن تلمسه من نقاط القوة أو مظاهر التجديد أو مصادر الأمل. فهو نموذج للمثقف العضوى الملتحم مع الحياة الواقعية والاجتماعية الذى لم ينغلق على الكتب والمؤلفات والجوانب التنظيرية المنفصلة عن الواقع، فكان له حضور فى المؤسسات والندوات والمناسبات العامة وفى الجوائز ويعمل على تنسيق كثير من الأمور ويرتب أوراق الحياة الثقافية وإن شاب أى ممارسة بعض التقصير فهذا لا يخل بالأصل أو يتعارض مع النوايا الطيبة والإرادة الحقيقية فى العطاء والإصلاح. 

وفى تقديرى أن الموت قد ينصف الإنسان وملثما ظل طه حسين حيًا حتى الآن وظل مؤثرًا ومحركًا لكثير من مصادر الضوء والفاعلية الأدبية فى حياتنا التى طالها الكثير من الضعف، مثلما كان طه حسين كذلك فأنا على يقين من أن الدكتور جابر عصفور سيتزايد دوره بعد الرحيل بالجسد، ذلك لأن هذا الغياب سيجعل التركيز ينصب على كتبه ومؤلفاته وسيجعل التعامل معه ممتعًا بكثير من الموضوعية التى تأكلها المعاصرة والصراعات، فالمعاصرة حجاب كما يقال، ورحيل الدكتور جابر بالجسد سيرفع هذا الحجاب ويجعل كثيرين يتجهون للتنقيب فى منجزه وعطائه وسيدفع إلى تأمل جهوده ومنجزه والتعلم منه وبخاصة عند المخلصين الراغبين فى المعرفة، وحينها سيتم تصنيف مؤلفاته وسنعرف أنه كان ملتحمًا بالتراث وكان يؤسس عليه دائمًا منطلقاته وقفزاته الهائلة نحو التجديد والدمج ومحاولات المزج والتحسين والتلقيح مع الثقافات الأخرى والروافد المعرفية للحضارة الغربية بشكل خاص، سنجد أنه درس كثيرًا من البلاغيين العرب فى عصور الازدهار فدرس حازم القرطاجنى وابن طباطبا العلوى وقدامة بن جعفر وغيرهم فى كتابه المهم مفهوم الشعر فى التراث العربى الذى حظى بعدد كبير من الطبعات، وقد كانت كتبه فى النقد من الكتب القليلة التى حظيت بعدد وفير من الطبعات، ودرس شوقى ضيف وإحسان عباس وغيرهما الكثير، كما درس الدكتور طه حسين فى كتابه المرايا المتجاورة وكانت له وقفة بل وقفات كثيرة ومتأنية، فلم يكن معزولًا فى مساحة أو موقوفًا على أشخاص بعينهم بل كان يجول ويتجول وراء المعرفة ويطاردها أينما كانت. ودرس فى كتابه عن الصورة الشعرية أو الصورة الفنية فى الشعر العربى القديم أشياء مضيئة من التراث النقدى العربى، وكان ذا صلة بمنجز الأعلام فيه مثل الجاحظ وعبد القاهر الجرجانى وابن رشيق القيروانى، وأشار فى أكثر من موضع من كتبه أن تراثنا النقدى العربى هائل وثرى وعظيم ولكنه يحتاج دائمًا إلى كيفية مغايرة فى التناول والدرس والبحث ومحاولة إعادته وتجديده، وهو كله ما يعنى نظرًا وتطبيقًا أنه كان أكثر اتصالًا بالتراث وأكثر التحامًا به بل أكثر فهمًا له من كثير مما هاجموه واتهموه بالتغريب والانسلاخ عن جذورنا، وهذه من المفارقات الطريفة التى يمكن بسهولة اكتشافها مع مزيد من التدقيق والفحص والتأنى والاطلاع وتجاوز طريقة هؤلاء الظلاميين فى الاتهامات الجزافية. 

وصلة الدكتور جابر عصفور بالجذور والقديم والتراث واهتمامه بها جميعًا وإخلاصه له لا يمكن حصره فى دراساته وكتبه التى درست القديم أو التراث فقط، بل إن هذا الجديد وهذا النقل عن الغرب وهذه المحاولات للتحديث هى كلها لمزيد من الإضاءة للمنتج العربى أو للنصوص والآداب المنتجة فى اللغة العربية فهو فى النهاية اشتغال على آداب اللغة العربية وعلى تحسينها وجعلها أكثر عصرية وأكثر حيوية وارتباطًا بالواقع وذات طابع إنسانى بل عالمى حتى تكون لها فرص فى الترجمة أو الوصول إلى الآخر، وهذه أمنية عظيمة لأى فاهم أو مستوعب أن يصل صوتنا وتنقل آدابنا إلى الأمم كافة وهذا ليس دليل تبعية أو دليل انسحاق أمام الآخر كما قد يصور بعض المحدودين فكريًا، بل هو دليل على النضج ودليل على اكتمال الحالة الأدبية ودليل على بلوغ آدابنا ونظرياتنا ومنتجنا الأدبى حالة من الإنسانية العالية التى تدفع الآخرين لقراءتنا. 

لقد كان الدكتور جابر عصفور طليعيًا فى جميع اتجاهاته منتميًا لجذورنا وهويتنا وكان هذا الانتماء هو دافعه للعطاء ودافعه للاستمرار فيه وألا يفقد الأمل أبدًا، فظل محاربًا بالكلمة وظل صامدًا يشيد ويبنى ويوجه ويعلم ويمنح من حوله الأمل والطاقة للعمل، وربما من السمات المهمة الإنسانية التى يشترك فيها بقوة مع أستاذ الأجيال عميد الأدب العربى الدكتور طه حسين أن الدكتور جابر كان يقسو على تلامذته المقصرين وكان ينتقدهم ويستحث فيهم الطاقة ويستنفر ويستفز جهودهم وأحيانًا قد يقاطعهم إن وجد فيهما إهمالًا أو تقصيرًا أو تراخيًا، وهكذا كان عميد الأدب العربى حين كان قاسيًا على الدكتور محمد مندور بعدما ساعده على السفر فى بعثة إلى فرنسا فأخفق فى الحصول على الدكتوراه فيكون تقصيره دافعًا للأستاذ للقسوة على التلميذ، فكأنه لم يكن بينه وبين تلميذه غير أن يجتهد وأن يعمل ويكون دؤوبًا ومعطاءً ويحاول باستمرار. لقد شكل الدكتور جابر عصفور مدرسة كبيرة على المستويين الإنسانى والعلمى وأتصور أن هذه المدرسة لن تغلق أبوابها بالرحيل الجسدى بل سيمتد عملها ويستمر إلى أمد طويل وسيظل غرسه باقيًا وقيمه سارية وفاعلة فى عقول أجيال كثيرة بالضبط مثلما ستبقى كتبه ومؤلفاته خالدة وشديدة التأثير والفاعلية، وستظل منجزاته النقدية حلقة وصل مهمة تربط ماضى الأدب العربى والنقد العربى وتراثه بجديده وسيطول زمن الاعتماد على هذه المؤلفات من الباحثين. والكتاب والنقاد فى الحياة الثقافية وفى الجامعات.