الخميس 9 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
لغة الجينات 86

لغة الجينات 86

«الإنسانية» مش إنك تتعاطف مع تريند،تنساق وراء حكاية أوحكايات لاتستطيع تأصيلها أو التحقق منها، «الإنسانية» عند أصحاب الجينات الأصلية هى أساس فكرة الواجب والأخلاق ،هى الطريق للتطور، تجسيد حى لمفاهيم قبول الآخر والإيثار والتعاطف والأخوة والاحترام. «الإنسانية» هى الطريق للقضاء على الحيوانية أو البهيمية التى يعيش بها أصحاب «الجينات الخبيثة»، فى الظاهر تراهم يدعون إلى غرس مفاهيم العدل والحق والخير والعدالة والنزاهة، العمل على تنميتها وإعطاء الجميع فرص متساوية لنيل حقوقهم وحرياتهم... وفى الباطن يستخدمون «الإنسانية» للتلاعب بالعقول والمشاعر وغرس قيم جديدة وأهدافٍ جديدة تقوم على إدخال الناس فى زمرة قطيع لا يفكر.. قطيع تحركه مشاعر جياشة تتم تغذيتها بشكل يومى بمشاهد وحكايات مدروسة جيدًا لاستدرار التعاطف، للفت الانتباه إلى توافه الأمور، لإلهاء الناس بقصصٍ سخيفة تلعب على المشاعر الدينية أو الفضائح، ومن خلال هذه التوافه تتم مُمارسة تجربة حشد القطيع الذى لا يُفكر ليسير فيما هو مُرتب ومُخطط له جيدا، باختصار هى عملية تسويق رائعة للرأى العام.



«أصحاب الجينات الخبيثة» يقودون صراعًا دائمًا باسم الإنسانية، ويمارسون باسمها  خلطًا واسعًا وكبيرًا لنشر الجهل المُقدس..  فى الظاهر يبررون حالة رفض النقد برفع شعارات «الخط الأحمر» وتقديس أشخاص أو نمط حياة حتى لو أدى ذلك بنا جميعًا إلى التهلكة.. وفى الباطن يسعون بقوة نحو ترسيخ المفاهيم المغلوطة ولعبة الإلهاء باسم الإنسانية!.

«الإنسانية» عند أصحاب الجينات الأصلية مرتبة لا يتمكن من الوصول إليها إلا القليل من  البشر... أمثال الروائى الكبير والأشهر «ليو تولستوى»  

«تولستوى» فى الظاهر أرستقراطى أصيل ورث عن أهله أراضى شاسعة، وأملاكًا لا حصر لها؛ فنشأ إقطاعيًا، وعاش شبابه سعيدًا مترفًا.. وفى الباطن مفكر ومصلح اجتماعى من طراز فريد.. ذات مساء، فى لحظة فارقة، وقف يتأمل، ويسأل نفسه بصدق: لماذا أملك كل هذى الأراضى وحدى؟ لمَ أنام شبعانًا، ويجوع الفلاحون؟ لمَ يتعب غيرى لزراعة أرضى، لأهنأ وحدى بأطيب الطعام؟ فى تلك اللحظة الباهرة، تفجر الإنسان والإنسانية  فى داخله، خرجت الجينات الأصلية لتهزم الإقطاعى الجشع.. فقرر فى لحظة صدق أن يمنح أرضه وأملاكه للفلاحين.. خرج من قصره، بثياب خشنة، وأمضى ما بقى من حياته مثل كل الفقراء، حتى مات ميتة متواضعة.. لعلها كانت أجمل لحظة فى حياته.

«تولستوى» فى الظاهر أشهر روائى روسى يتغى - حتى من لم يقرأوا له حرفًا-  بأعماله الخالدة «أنا كارنينا» «والحرب والسلام» «البعث»، «الرب يرى الحقيقة لكنه ينتظر»، «مملكة الرب بداخلك»، «العجوزان»، «الناسك»، «العاصفة الثلجية»..... وفى الباطن كان روائيًا عظيمًا، وأديبًا شفافًا، عميق الإنسانية.. وهو ما دفعه لاتخاذ قراره الشجاع.

فاته الكثير من لم يقرأ «لتولستوى» بالتأكيد وفاته أكثر من لم يعرف قصة حياته وقراراته المصيرية المليئة بالتوهج الإنسانى الحقيقى.

«تولستوى» فى الظاهر أعظم الروائيين بالعالم على مر العصور، وفى الباطن عاش مغردًا بعيدًا عن السرب، لم يرض يومًا أن يكون ضمن القطيع، ولم يرض أن يشارك فى إلهاء القطيع وتغييب العقول ونشر البروباجندا الكاذبة، لم يرض أن يلعب على المشاعر الإنسانية بتزييف حقائق ونشرها ليظل هو فى القمة ويواصل الفقراء حياتهم البائسة بالمزيد من حقن تخدير العقول والأعصاب وبث الأمل الوهمى فى غد أفضل، أو تحميل الناس مسئولية فقرهم ومعاناتهم وتصدير الأمر على أنه قدر مكتوب ومحتوم، عاش عازفًا أنشودته المتفردة، تمرد على نشأته الارستقراطية وعلى ثرائه الواسع ورفضهما واختار الانحياز للفقراء.

«تولستوى» تمرد على نشأته الأرستقراطية وعلى ثرائه الواسع ورفضهما واختار الانحياز للفقراء، ولجأ للكتابة ومنحها عمره فردت بموهبة لم ولن تتكرر فى الإبداع، فهو روائى واقعى وفيلسوف صادق مع نفسه قبل أن يكون صادقًا مع المجتمع والناس، هو مصلح اجتماعى لم يكتف بالتنظير ولا بالكتابة عن أفكاره ومعتقداته بل حولها لحقيقة، فأسس مدرسة لأبناء المزارعين  يعلمهم فيها، وأنشأ مجلة تربوية ينشر بها نظرياته التربوية وفكره الإصلاحى ومد يد العون للفلاحين وأعطاهم حقوقهم.. عاش حياة المزارعين وترك عائلته الثرية ودعا للمساواة بين البشر وأطلقوا عليه لقب محامى الفلاحين الروس، وامتزج بالواقع الروسى وأبدع بتصويره وكشف الزيف فى علاقاته الاجتماعية.

«تولستوى» نجا من تضخم الأنا ووهم القوة والنفوذ، عاش متواضعًا، نبيلًا، أيقونة سلام  مع النفس والزهد والترفع عن نعيم الحياة وشهدها.. عاش  يبحث عن الهدف والمغزى من الحياة وكيفية معايشتها وأطلق أسئلة ونظريات  أثارت المجتمع الأرستقراطى الروسى كله ضده حتى زوجته» صوفيا أندرييفا» وقفت بقوة فى وجه انحيازه للفقراء والفلاحين.. رفضت محاولته التبرع بأملاكه للفقراء ورأت فى  لبسه  ثياب الفقراء, وعمله فى  الحقول المجاورة لبلدته لكسب رزقه بعرق جبينه جنونًا حقيقيًا؛ فسعت إلى اتهامه بالجنون من أجل استعادة ممتلكات العائلة التى بددها، معتبرةً أن حياته بين الفلاحين ونومه فى أكواخهم وارتدائه ملابس تشبه ملابسهم أمر يدعو إلى الاشمئزاز... ورد عليها تولستوى برسالة طويلة تركها لها قبيل رحيله النهائى عن المنزل جاء فيها: “أصبح وضعى غير محتمل فى هذا المنزل يا صوفيا, لم أعد قادرًا على ممارسة حياتى اليومية فى هذه الرفاهية التى تحيط بى وبات الثراء يخنقنى، وما أنشده هو عالم من السكون والوحدة، لا يفسده ضجيج المال، وأنانية الثراء، ووحشية الرغبة فى التملّك”.

لم يرق للسيدة «صوفيا» الأرستقراطية تصرفات زوجها وهى ابنة طبيب القيصر، المتعلمة التى تجيد ثلاث لغات أجنبية: الإنجليزية والفرنسية والألمانية؛ فنشبت الخلافات بينهما... لم تستطع أن ترى زوجها الأرستقراطى العريق  يوزع ثروته على هؤلاء الفقراء وعبيد الأرض؛ فهى تريد أن تكون ثروة هذا الرجل لها ولأولادها لا لهؤلاء الخدم الذين لم تعتد على أن تخالطهم وتستضيفهم فى بيتها. راحت تسىء إليه، وتتهمه بالنفاق والأنانية، والجنون، وتشوه سمعته، وهددته بانتحارها، ووقف اثنان من أولادهما إلى جانبها، فى حين وقف الآخرون إلى جانبه؛ فقد أحبوا أفكار أبيهم واتجاهاته الإنسانية.

وكانت نهاية تولستوى وهو فى الثانية والثمانين عندما هرب من المنزل فى إحدى الليالى الباردة،ليصاب بالتهاب رئوى حاد فى محطة للقطار ببلدة «استابوفا» التى غيرت اسمها بعد وفاته، لتسمى «ليو تولستوى» تكريمًا له.

ألم أقل لكم «أصحاب الجينات الخبيثة» يقودون صراعًا دائمًا باسم الإنسانية، ويمارسون باسمها خلطًا واسعًا وكبيرًا لنشر الجهل المقدس.. ألم أقل لكم إن «الإنسانية» عند أصحاب الجينات الأصلية مرتبة لا يتمكن من الوصول إليها إلا القليل من  البشر.