جنون الشهرة
أعلم أن تناول موضوع «الشهرة» للأشخاص فى المجتمعات - وليست الشهرة للمشروعات التجارية والمؤسسات العقارية - قد تناوله العديد من أصحاب الأقلام المشهورة والمغمورة؛ وتناولته أبحاث علماء الطب النفسي؛ وقاموا بتحليل تلك الظاهرة من حيث تأثيراتها النفسية والعصبية على سلوكيات وتصرفات من أصيبوا بهذا المرض العضال.. والذى يبدو أنه لاشفاء منه إلا بانتهاء آخر شهيق لأنفاسهم فى الحياة.
وهنا أخوض فى لُجة هذا النهر الطامي؛ تحدونى رغبة كاملة فى محاولة توعية وترشيد وإرشاد بعض النفوس التى انساقت ــ دون تروٍ ـ خلف أفكار من يقومون بفتح بعض الملفات القديمة؛ تلك الملفات التى تتناول أحداثًا كثُر فيها اللغط والتأويل؛ سواء أكانت ملفات دينية أو سياسية أو عن زعماء حكموا لفترات من الوقت ورحلوا عن دنيانا؛ وهم يعلمون مسبقًا أنها ملفات عقيمة دُفنت تحت رمال الزمن وأحداثه؛ وتناولها لن يفيد أو يمنح أية حلول جذرية لمشكلات العصر ولا تُغنى ولا تُسمن من جوع بحسب المثل الشائع، ولكنهم يميلون إلى تلك السباحة على أمل أن يكونوا حاضرين فى أذهان العامة والبسطاء فى المجتمعات البشرية؛ خاصة المجتمعات التى تزداد فيها نسبة الأمية الثقافية والنعرات العقائدية والقبلية المتخلفة،بل تنتفخ أوداجهم بالأعداد التى تستعرض صفحاتهم الصفراء فى الجرائد والمجلات الهامشية؛ أو على حوائط « الميديا « الزرقاء، الحوائط التى باتت تشارك المواطن قرشه ولقمته وسريره.. وأفكاره!
ولنا أن نلحظ بعين الوعى أن ازدياد «الشهرة» للبعض؛ تنقلب مكاسبها الوقتية إلى متاعب أزلية تنوء بها اكتاف من يسعون بدأبٍ إلى امتلاكها ليكون سعيهُم كسعى الفراشات إلى نيران المصباح الملتهب ليكون السقوط المدوِّى.. والنهاية!
ومن المفارقات فى عالم الشهرة ومحبيها والساعين إليها؛ هو تعدد الأهداف والغايات والأهواء والمقاصد؛ فمنهم من يطلب المال، أو المنصب، أو السلطة والنفوذ، ومعظمهم يطلب «الكُل معًا».. وغالبًا مايكون لكل مرحلة من تلك المراحل تطلعاتها ومتطلباتها؛ بل ثمنها الباهظ من الصحة والوقت.. وربما الكرامة!
وغالبًا يحدث هذا الصراع الأبدى برغم أن الكل يعلم علم اليقين إن رحلة الحياة من المهد إلى اللحد قصيرة مهما طالت؛ ولكننا نرى ــ بين الحين والحين ــ بعض الأشخاص الكرتونية اللزجة الآتية من صحراء الجوع؛ ولم يشبعوا ـ كما يقول المثل المصرى على «طبلية أبوهم»؛ ليستعرضوا أسلوب حيواتهم الجديدة وسياراتهم وطائراتهم الخاصة؛ بل يقومون باستعراض كيفية التعامل مع تنظيف «طقم الأسنان» خاصتهم بالآلات والمواد المصنوعة من الذهب؛ وتمتد إطلالتهم علينا ــ بكل أسف ــ من نافذة «الميديا» أو على صفحات المجلات الفنية بسلوكيات وتصرفات ساذجة ولكنها تشى بمدى تعلق الإنسان بأهداب الحياة والسعى للشهرة بكل الطرق والوسائل؛ غافلاً أو متغافلاً عن أن كل شيءٍ إلى زوال.. وفى هذا يُنشد «الخيام» ليقول :
فقد تسَاوى فى الثرى راحلٌ غــدًا..
....................... ومـاضٍ مَــنِ ألــوف الســـــنين !!
ويبدو أنه لا أحد يأخذ العظة والعبرة من تلك الحكمة الأزلية.. وسبحان الله.
وعندما نعبُر «نهر الشهرة» إلى الضفة الأخرى؛ والتى يقف عليها ــ بالتعبير الشعبى «مهاويس» أو «مجانين المشاهير»؛ وهم الذين يتابعون بكل الشغف أخبار العديد من الفنانين فى السينما والمسرح، بالإضافة إلى بعض المطربين او المطربات؛ وتجد هؤلاء «المجانين» يحفظون عن ظهر قلب تواريخ الميلاد وآخر أخبار علاقاتهم فى الحب والزواج والطلاق؛ وصولاً إلى المعاملات الخاصة فى عالم التعاقدات والمنتظر من الأعمال الفنية أو الغنائية؛ ونستطيع ان نطلق على هؤلاء لقب «أصحاب الشهرة العكسية»؛ ويكثُر وجودهم فى الحفلات العامة، ولنا أن نتذكر أحدهم الملقَّبْ بـ «مجنون سعاد حسني» ذاك الذى حقَّق شهرة أكثر من شهرة «سعاد حسني» نفسها ! وإلى يومنا هذا يتناقل الناس فى مجتمعنا المصرى والعربى مادار بين الفنان الشعبى «المونولوجست محمود شكوكو»؛ حين قال للأديب عباس العقاد : « تعالى ننزل ميدان التحرير وشوف الناس هتروح لمين؟.. بالتأكيد الناس هتروح لـ «شكوكو ومش هتروح للعقاد!» ! وهذا الاتجاه يدل على بعض اختلاف المعايير بين طريقة تقييم الفنان والمطرب ــ من حيث الشهرة ــ ؛وبين الأديب والشاعر، ويوحى بمدى ارتفاع أو انخفاض الثقافة المعرفية التى يتمتع بها المجتمع.
وأخيرَا.. فإنه يجب على من يصل إلى أعلى درجات سلم الشهرة؛ ليشار إليه بالبنان فى كل موقع ومحفل فنى أو أدبي؛ أن يعلم أنه قد أصبح من الشخصيات العامة فى المجتمع؛ وعليه أن يتحمل متاعب ومكاسب الوصول إلى تحقيق الشهرة؛ وليعلم أن الجماهير لاترحم فى كل الأحوال، ولنا العبرة والمثال فى التعامل مع شهرة «لاعب الكرة « ــ مثلاً ـ فيأخذونه إلى أعلى مصاف التكريم والتبجيل إذا ماقاد فريقه إلى النصر وسرعان ماينقلبون عليه فى الأسبوع التالى لإخفاقه فى إسعادهم بالانتصار على منافسه؛ وليست هناك رحمة أو إشفاق، أو انتخال بعض الإعذار لهم برغم علمهم بمرور هذا اللاعب بأزمة نفسية أو عائلية.. أو حتى عاطفية.
ماأصعب الشهرة وجنونها ومفارقاتها الغريبة والعجيبة فى دنيانا.. ولنا أن نرضى بما قسمه الله لنا؛ وما أعطانيه من نِعمة استنشاق هواء الحياة فى كل صباحٍ جديد.
رئيس قسم الإنتاج الإبداعى الأسبق بأكاديمية الفنون وعضو اتحاد كتاب مصر