الثلاثاء 23 يوليو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
«فقه القُفة»

«فقه القُفة»

 «كل اللى يعجبك والبس اللى يعجب الناس» من أكثر الأمثال الشعبية التى كنت أسمعها بكثرة فى فترة طفولتى، فكنت أخشى أن أرتدى الملابس التى تعجبنى، وأرضخ فى النهاية لما تختاره أمى وأكاد أجزم أنها كانت لا تناسب سنى ولا طولى ولا ذوقى ولا حتى مرحلة طفولتي، ولكنى كنت من الأطفال الذين يسمعون الكلام، فلا أعترض أو أتمرد أو حتى أقول «لا»، ولم يكن ذلك من باب التعنت أو التشدد أو التطرف من قبل أمى والعياذ بالله، لكنه كان إعمالًا بمبدأ التوفير، فثقافة شراء ملابس بمقاس كبير «عشان تكفى سنتين تلاتة» كانت منتشرة بشدة، وهذا ليس عيبًا فى تلك الفترة لأن هناك أشقاء آخرين لهم احتياجات أيضًا، بجانب أعباء المنزل ومتطلباته التى لا تنتهى فى ظل دخل أبى وأمى المادى الذى كان يجب أن يكفى كل ما نحتاجه بل ويفيض لأى طارئ أو عارض جديد يظهر فجأة دون استئذان أو بلا أى مقدمات، وأظن أنها كانت ثقافة سائدة فى كثير من البيوت المصرية منذ أكثر من 20 عامًا.



كبرت وظل المثل يراودنى ويتردد بداخلي، بالطبع عن عدم اقتناع، فمن حقى أن أكل ما يعجبنى وأرتدى أيضًا ما يروق ويحلو لى ويعجبنى حتمًا، لأنه يخصنى لوحدي، فأنا الذى سأرتديه وأدفع ثمنه من مصروفى أو راتبى عندما اتوظف ويصبح لى دخل خاص بي، وأتحمل وزره بمفردى دون غيرى، وكنت أرى فيمن يطلق على نفسه لقب «شيخ» نظرات ناقمة رافضة على كل من ترتدى بنطلون، فى تلك الفترة التى بزغت فيها فكرة أن ارتداء المرأة للبنطلون حرام شرعًا، من باب أنها تشبهت بالرجال، ولعن الله المتشبهات بالرجال، ودون الخوض فى الجانب الديني، فأنا لا أناقش هنا الحرمانية أو الشرعية بقدر ما أضع يدى على مشكلة وأزمة فى الخطاب الدينى الموجه للمراهقين والشباب، منذ قديم الأزل وإلى وقتنا هذا، فكانت النصيحة من هؤلاء الشيوخ تأتى مليئة بالوعيد والتهديد وأن من ترتدى ملابس كهذه مكانها الحتمى والطبيعى والمنطقى النار وبئس المصير!

تطور العالم وتقدم أكثر وأكثر، وغزت التكنولوجيا وتداخلت فى كل جوانب الحياة، وأصبحنا أكثر انفتاحًا ومعرفة بثقافات الشعوب من حولنا، وتحولت مواقع التواصل الاجتماعى إلى جزء أصيل من روتيننا اليومي، فأى شيء يحدث فى أى نقطة فى العالم أو حتى على سطح المريخ يصل إلى مسامعنا فى جزء من الثانية، وباتت المعرفة متاحة أكثر مما ينبغي، بشكل قد يفيد فى أحيان ويضر فى أحيان أخرى، ومع ذلك لم يتدرب المشايخ على التعامل مع هذه التطبيقات الاجتماعية، ولا حتى توجيه الجيل الذى يقضى يومه على هذه المواقع، فلم يعى بعضهم أن الكلمة أشد حدة من السيف، وأن أى حديث يتفوهون به محسوب عليهم وليس لهم، قد يبنى المجتمع أو يهدمه أكثر، قد يسمو به إلى قمة العلو وقد يهوى به إلى قاع الفوضى والفتن والبلبلة.

لم نكد نفيق من تلك الفتاوى المريبة الغريبة التى ظاهرها الرحمة وفى باطنها ضياع المجتمع، والتى أطلقها أحد مشايخ الأزهر، يدعو فيها إلى ألا تمانع المرأة من أن يتزوج رجلها فى الغربة حتى يعف نفسه، فقامت الدنيا من بعدها وعندما بدأت تقعد لتهدأ قليلًا، جاء شيخ أخر ينتمى للمؤسسة الدينية نفسها، لكنه لم «يُكحل الدنيا» فقط بل وعماها تمامًا وجعلها متشحة بالسواد القاتم والمرار الطافح طوال الوقت، عندما علق فى فيديو بث مباشر عبر «فيسبوك» على مصرع نيرة أشرف على يد زميلها طعنًا بالسكين أمام جامعة المنصورة، ليقول لكل فتاة وسيدة «إذا كانت حياتك غالية عليكِ أخرجى من بيتك قفة»، وبخلاف أن الحادث فى حد ذاته مؤسف وصادم ومرعب ومأساوي، فهذه التصريحات أشد رعبًا وأسفًا وأكثر صدمة ومأساوية من الحادث، فهى تهديد صريح وواضح لكل تاء مربوطة تخرج بلا حجاب أو كما يقولون «لابسة على سنجة عشرة» يكون مصيرها الدبح والطعن والترويع، فعن أى دين تتحدثون يا مشايخ وعن أى فقه تلمحون هل هو فقه «القفة»!، بالطبع تتحدثون عن دين جديد غير الإسلام، لأن «الانتقاص من أخلاق المُحجَّبة أو غير المُحجَّبة؛ أمرٌ يُحرِّمه الدِّين، ويرفضه أصحاب الفِطرة السَّليمة، واتخاذه ذريعة للاعتداء علة أى فتاة جريمة كبرى ومُنكرة. أتمنى من الأزهر الشريف أن يعيد النظر فى الطريقة التى تُقال بها الكلمة لأنها قد تهد مجتمع بأسره وتشتته، وأن تُعالج حالة فوضى الفتوى، التى باتت منتشرة بشكل مفرط، فكل يوم نسمع عن فتوى أو إجازة أو منع أو تهديد، فالعمل الإفتائى الفردى فات آوانه ومضى، ووقفه ضرورة، كما أن السير خلف فتاوى وآراء فردية يؤدى إلى مزيد من إرباك الناس وتخبطهم.. أرحمونا يرحمكم الله.