جدلية «الحرب والسلام».. فى الرواية العربية والعالمية

خالد بيومى
الحرب «صوت مرتفع فى مقابل عجز صوت الحكمة» بمعنى أن البشرية بالرغم من تطوّرها والتراكم الإنسانى والفكرى الذى توصّلت إليه، لم تتمكّن بعد من إيجاد حلول ناجعة لمسألة الحرب، واستبدال لغة العنف والقتل بلغة التفاهم والحوار على أساس المشترك الإنسانى. رواية الحرب يغلب عليها الطابع التسجيلى واللغة التقريرية والخطابية المباشرة، إلى جانب حضور الأيديولوجيا باعتبار الحرب لحظة مقدسة تستدعى تمجيد الجيوش والقادة، وتعظيم قيم البطولة والاستشهاد والسيطرة.
يعتبر القرن التاسع عشر البداية الحقيقية لظهور روايات الحروب، التى تبلورت فيها المفاهيم، ليقدم الأدب رؤية جديدة مناقضة لما كانت تصدره الملاحم القديمة من تمجيد للحرب، خصوصاً فى «الإلياذة» لهوميروس الإغريقي، فصدرت أعمال كبيرة وخالدة من بينها رواية «الحرب والسلم» للكاتب الروسى تولستوي. ولعلها واحدة من سخريات القدر أن تكون هذه الرواية التى تصنف كإحدى روائع الأدب العالمى، قد خرجت من روسيا، التى يشن حاكمها اليوم حرباً على جارته أوكرانيا، يدفع ثمنها العالم بأسره. لم ترصد الرواية التى تدور خلال اجتياح نابليون لمدينة بطرسبورغ الروسية عام 1805، حالتى الحرب والسلم، أو مشكلات المجتمع الروسى آنذاك، من تفاوت طبقى وحياة الترف لدى طبقة النبلاء وحسب، وإنما اقتربت من الإنسان. ورصدت قيمة الحياة. وأظهرت عبثية الحروب، وما تسفر عنه من حزن، وفراق، ومعاناة، وكان ما زخر به النص من ثنائيات متقابلة، بمثابة جسور مدّها الكاتب عبر بنائه، لتعبر فوقها غاياته فى تصوير جحيم الحرب. وكانت شخوصه، أدوات نقل عبرها الأهوال على خط النار، وأحوال الجنود، والتكلفة الكبيرة لصراعات عسكرية، تودى بمصائر الشعوب.
أما رواية البؤساء للروائى الفرنسى فيكتور هوجو تكمن أهمية الرواية بالدرجة الأولى فى قيمتها الانسانية وعرضها لمشاعر الحب والألم والعواطف العميقة وعرجت على الثورة الفرنسية واثرها فى المجتمع الفرنسى وكيف استمر العدل والظلم بالتناوب فى تداول السلطة. وأكثر ما فى الرواية ايلاما هو القانون الفرنسى وظلمه بحق الإنسان فى تلك الفترة، حيث إن سرقة رغيف خبز قد تودى بصاحبها إلى السجن المؤبد مع الأشغال الشاقة ويتناول هوجو فى روايته كيف حوربت تلك الثورة من قبل العديد من الدول الأوروبية وكيف انعكس ذلك على المجتمع الفرنسي.لقد كانت الثورة الفرنسية بمثابة الحدث الذى نقل أوروبا وفرنسا من العصور الوسطى إلى العصور الحديثة، حيث بزغت مفاهيم سياسية واجتماعية واقتصادية جديدة مثل العدل والإخاء والحرية والمساواة. وقد حققت الرواية شعبية عالمية كبيرة، لا سيما فى أميركا أثناء الحرب الأهلية الأميركية، لتصبح أكثر الكتب مبيعاً، نتيجة ما رصدته من معاناة القتال، والتماثل العاطفى مع شخوصها.
أما رواية «ذهب مع الريح» للكاتبة الأمريكية مارجريت ميتشل فقد صدرت عام 1936 حظيت هذه الرواية على إعجاب عالمى لطابعها الإنسانى، إذ أنها رواية الحب والحرب، تتحدث هذه الرواية عن قصة الفتاة ذات الـ 16 عاما سكارلييت أوهارا، حيث أنها تقيم فى مزرعة تارا التابعة لولاية جورجيا الأمريكية، ففى فترة الحرب الأهلية التى وقعت بين الولايات الأمريكية الشمالية والجنوبية، والعقبات التى مرت بها خلال فترة الحرب وبعد انتهائها، والمشاعر التى أصابتها فى مراحل حياتها التى مرت بها فى هذه الفترة.
أما رواية» وداعا أيها السلاح» فتعد من أهم ما كتبه الروائى الأمريكى إرنست هيمنجواى وصدرت عام 1929 وتدور أحداثها فى إيطاليا خلال الحرب العالمية الاولىتمثلت هذه الرواية فى شخصية «الليوتنان فريدريك» الشاب الأمريكي، الذى يعمل فى مجال الإسعاف والإنقاذ، والذى لم ينج من ويلات الحرب، مع أن مهمته كانت واضحة. دارت أحداث الرواية فى إيطاليا، وتناولها الكاتب أسلوب السرد المباشر، حيث يروى البطل (فريدريك) الأحداث الدائرة فى حواريات مطولة بينه وبين الشخوص التى شاركته الأحداث، والشخصية الأهم فى حياته هى الممرضة كاترين، التى صحبته إلى النهاية المأساوية، مع أنها فارقته فى أحداث خطيرة وجسيمة. ومع أن مهمته كانت إنسانية مدنية، إلا أنه أصيب وأشرف على الهلاك، ولكن إصابته هذه كانت سبباً فى توطيد علاقته بكاترين، فهامَ بها واشتعلت فى نفسه رغبة مضطرمة فى الزواج بها، لقد اعتنت به عناية شديدة فى المستشفى الأمريكى الذى أنشأته دولته عندما دخلت الحرب، منذ دخول المستشفى مروراً بالعملية الجراحية ثم مرحلة التماثل للشفاء وعملية التأهيل، إلى أن غادر المستشفى ليلحق بمهمته الإنسانية، لكن أين الإنسانية؟ فهذه الحرب ليست إنسانية، إنها حرب وحشية، كان قائداً لمجموعة قضى عليها قضاءً مبرماً، ومرة أخرى يفلت من الموت المحدق به، ويلقى نفسه فى النهر لينجو من أيدى ضباط يقتلون عشوائياً ولا يرحمون، وينجو بعد مغامرة عنيفة وصراع من أجل الحياة، ومرة أخرى يعود إلى الحياة التى يتوق لها مودعاً هذه المرة السلاح والحياة العسكرية مهما كلفه ذلك من ثمن، لقد تمرد على هذه الحياة البائسة، إنها مليئة بالأخطار، تمرد على الحرب وعلى سلاحها بحثاً عن الأمن، كما هو شأن كل إنسان ناء بويلات الحرب، إنه يمثل كل من وقع تحت وطأتها ومرة أخرى يعود إلى كاترين، فى رغبة أكيدة فى العيش معها، لقد التقى بها، لكن الحرب ما زالت تلاحقه، وهو الآن مطلوب لأنه ودّع الحرب وودّع سلاحها، فما الحل؟ لم يكن أمامه إلا الهروب إلى سويسرا حيث المكان الذى ينشده.
أما رواية «الدكتور زيفاجو» للروائى الروسى الشهير بوريس باسترناك وقد صدرت عام 1956 والرواية فتشكل حلقة أساسية فى الحرب الباردة بين امريكا وروسيا وكان الناس يتبادلون الرسالة سرا لان الرقيب الروسى رفض نشرها، وقد فاز بجائزة نوبل ولكن روسيا عارضت تسلمه الجائزة وحرم منها. وعلى المستوى العربى هناك العديد منالروايات التى تناولت الحرب كراوية «مكابدات عبدالله العاشق» للروائى العراقى عبد الخالق الركابى، و«أرجوان» للروائى التونسى محمّد المختار بن جنات، ورواية «المسلّة للسورى نبيل سليمان، أما بالنسبة للرواية المصرية، فإنه سوف يعود بنا إلى البدايات النضالية والتحررية، ليتوقّف عند رواية «فتاة الثورة العرابيّة» ليوسف أفندى حسن صبرى.
و«عذراء دنشواي» لمحمود طاهر حقّى، ليستعرض فيما بعد «زقاق المدق» لنجيب محفوظ، «القاهرة 51» لأمين ريّان، «الباب المفتوح» للطيفة الزيّات وغيرها،
وهناك رواية «الأسرى يقيمون المتاريس» للروائى المصرى فؤاد حجازي. تحدّث الكاتب المصرى فؤاد حجازى فى روايته بلسان ضابط أركان حرب عن سوء التخطيط الذى قاد إلى الهزيمة، فهو يُطلعنا على إعداد العتاد وتجهيزه للحرب، إلا أنه لم تُجهز الخطط الكفيلة لمواجهة العدو فى إعدادنا للحرب. يسرد فؤاد حجازى من خلال روايته «الأسرى يقيمون المتاريس» فى (120) صفحة، التى صدرت أول مرة عام 1976 وتوالت طبعاتها، وترجمت إلى اللغتين الإنجليزية والروسية ولقيت اهتماماً نقدياً كبيراً فى أوروبا، ما حدث للأسرى المصريين فى حرب 1967م، فى سجن «عتليت» وهو إسم رومانى انتحلته إسرائيل: توجد إلى جواره آثار رومانية يدعون أنها يهودية.
تبدأ رواية «الأسرى يقيمون المتاريس» بحكاية تصوّر كيف بدأت هزيمة1967، وكيف دخل الصهاينة العريش، وكيف انتصروا فى «حرب الأيام الستة» كما يسمّيها الصهاينة.
أما رواية « الحرب فى بر مصر» للروائى يوسف القعيد» فقد حصلت على المرتبة الرابعة فى قائمة أفضل مائة رواية عربية. وتدور أحداث رواية «الحرب فى بر مصر» فى قرية مصرية قبيل حرب 1973، حيث يتنصل عمدة القرية من إرسال ابنه الأصغر للالتحاق بالجيش كما يفترض به أن يفعل، ولكيلا ينكشف هذا الأمر، يقوم بإرسال ابن خفيره «مصري»، التلميذ الفقير المتفوق فى دراسته، بدلا عنه، تستخرج أوراق إثبات جديدة لـ»مصري» باسم ابن العمدة، ويؤخذ منه كل ما قد يثبت هويته الحقيقية، ويلتحق بالجيش، لكن الشاب الصغير يضيق ذرعا بلعب دور ابن العمدة ويثقل السر الدفين عليه، تبدأ الحرب فيستشهد ببسالة، لكن الأوراق الرسمية كلها تشير إلى أن ابن العمدة هو الذى استشهد.
وبذلك ينال العمدة العزاء الموشى بالثناء والتمجيد لبطولة ابنه المزعوم، بينما الابن الحقيقى حى يرزق، يرفض تسليم الجثة إلى الوالد المكلوم، وتدفن خيوط القضية مع الشهيد؛ نظرا لتورط شخصيات عديدة.
أما رواية «سم فى الهواء» للروائى اللبنانى جبور الدويهى والصادرة عام 2021، على الرغم من عدم إعطاء الرواية إشارة تاريخيّة زمانيّة محدّدة فى سياق نصّها السردى، غير أنّ أحداث الرواية وتغيّراتها الزمنيّة توحى بأنّها بدأت مع تصاعد الأزمة السياسيّة فى لبنان عام 1958، والتى كانت بمثابة «أوّل الرقص» لكافة الأزمات والنزاعات اللبنانيّة التى تلتها ولم تورث البلاد سوى الخراب، لتصل خاتمتها مع انفجار 4 آب الذى يعتبر واحداً وأسوأ كوارث الانفجارات فى التاريخ. وبالتالى كانت هذه الحقبة من التاريخ اللبنانى بمثابة بيئةٍ خصبةٍ لإبراز تحوّلات الشخصيّة اللبنانية وتغيّراتها من خلال شخصيّة الراوى أو من خلال كافة الشخصيّات الثانويّة، يلجأ الدويهى بدايةً إلى عنوانٍ لمّاح «سمٌّ فى الهواء»، والذى يقود بدوره إلى عالم لبنان خلال هذه الفترات، وهو العالم المشحون الذى عاشه اللبنانىّ طيلة عقود حياة الدولة اللبنانيّة، أى الأحداث المتفرّقة وخلفياتها المشحونة التى رافقت اللبنانيّ وطغت عليها العذابات والآلام.
أما رواية «موسم العنف الجميل» للروائى فؤاد قنديل فتتناول أحداث حرب أكتوبر 1973 واية عن حرب أكتوبر، وتنتهج الرواية أسلوبًا مميزًا بتصويرها ما يجرى على ضفتى القناة قبل وأثناء الحرب المفاجئة للجميع.
وتعبرالرواية عن «تجربة الحصار» ذاك الذى كان وعبر عنه الجنود حول حالتهم النفسية طوال السنوات السابقة عن بداية المعارك، أو الحصار الفعلى، بعدما انتقل جنود كتيبة المشاة وعبروا منطقة نقطة دشمة كبريت الحصينة على الضفة الشرقية للقناة، تقع الرواية فى عدة فصول.
أما رواية «الصيف السابع والستون» للروائى إبراهيم عبدالمجيد كتبها بعد حرب 1967 وقدمته الى الحياة الأدبية، رواية تمزج بين ما يحدث على الجبهة أثناء الحرب وما يحدث بين جماعة من الشباب مختلفى الاتجاهات السياسية ويجمع بينهم موقع للدفاع المدنى فى احدى الشركات البحرية، للتركيز على حجم المأساة وحجم الدمار وحجم الفوضى وحجم الأمل. رواية تقع فى مئة وثمانين صفحة، صورها القاص بدمه، ومشاعره وأعصابه قبل أن يدونها بمداده، تصف الأيام الصعبة التى عاشها الشعب العربى عامة، والشعب المصرى خاصة حال اندلاع الحرب فى صبيحة الخامس من يونيو 1967، مرورا بأيامها الستة ووصولا الى تنحى الزعيم الراحل جمال عبدالناصر، ومطالبة الجماهير له بالعودة.. لحين ازالة آثار العدوان. وفى نهاية الرواية بعض من مقتطفات شعره، الذى حاول فيه ان يلخص ما فى الرواية من أحداث وأحزان. رواية مضى على أحداثها أربعون عاما، ولكن آثارها مازالت تترى، وندوبها لم تبرحنا بعد.