الأربعاء 24 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
«تسليع التعليم»

«تسليع التعليم»

مشهد «إفسادى» بامتياز، استفزنى للكتابة فى موضوع ترددت كثيرًا وأرجأت الكتابة فيه عدة مرات.. فهذه المساحة التى أكتب فيها بالجريدة ليست «ملاكى» أكتب فيها ما يروق لى.. وأتعامل معها طوال الوقت على أنها ملك خاص للقارئ ومن حقه أن أقدم له معلومة أو قيمة أو حتى تسلية مناسبة.. ففى النهاية، الكتابة هى نوع من الفنون التى تهدف لإسعاد الناس وتهذيب مشاعرهم ومخالطة أرواحهم.



قبل أن أقول لكم ما هو المشهد الإفسادى المستفز.. دعونى أصارحكم أن التردد فى الكتابة نابع من كونى صاحب مصلحة ومخطئًا فى الوقت نفسه... صاحب مصلحة لأن ابنى” يوسف “ كان فى الثانوية العامة ودخل امتحاناتها المرتبكة المربكة..ومخطئ لأنى لم أستطع منعه من تعاطى الدروس الخصوصية طوال العام.. نعم الدروس الخصوصية تعاطى وإدمان.

“المشهد الإفسادى” المستفز كان لمدرس فلسفة صور نفسه أو صوروه يدخل أستاد كلية التربية الرياضية بشارع فيصل بأربع سيارات مرسيدس بيضاء فارهة وفى حراسة “بودى جاردات” ، وزفة وموسيقى ومظاهرة من طلبة يرتدون الأبيض ويرفعون لافتات حب وتمجيد فى مدرسهم الخصوصى الذى وقف فى الاستاد يعطى حصة المراجعة النهائية لما يزيد علي ألف طالب. “المشهد الإفسادى” ظاهره، حصة درس خصوصى من مدرس شاطر بيقدر يلخص المنهج للطلبة ويقدم لهم كبسولة لا يخرج منها الامتحان على مدار سنوات، ولدرجة أن البعض يشيع أن الامتحان يسرب له قبلها..وما المانع.. فالتسريب بطل الثانوية العامة كل عام... وحقيقته مؤلمة.. تحدٍ سافر وعلنى لدولة أعلنت تجريم الدروس الخصوصية وإغلاق “السناتر” فيفاجئها مدرس الفلسفة بتأجير استاد كلية تابعة للمنظومة التعليمية وإلقاء حصة مراجعته فيها والكل صامت صمت مريب وغريب.. كشف واضح لعورات أولياء الأمور.. فنحن نشكو من التكدس فى الفصول وأن 50 طالبًا فى الفصل يعنى أن المدرس فى وادٍ والطلبة فى وادٍ ولن يكون هناك تعليم.. ولا نتردد فى دفع ثمن الدرس الخصوصى الذى يحضره ألف طالب على الأقل.

“المشهد الإفسادى” المستفز ليس حكرًا لمدرس الفلسفة.. كل مدرس شهير فى مادته بيأجر مكان يتسع للمئات لإلقاء حصة المراجعة على طلبته قبل الإمتحان.. وكلنا ندفع الثمن أموالًا وجيلًا لا يتعلم ويتعود على السطحية وقيم الحصول على المنفعة بلا جهد أو اجتهاد.. فى تواطؤ وصمت واستسلام غريب وكأنه قدر محتوم... كما استسلمنا لعمليات تسريب الإمتحانات يوميًا واكتفينا بإعلان فصل طالب هنا أو حرمان طالب هناك من استكمال الإمتحان..لكن لم نقدم حلولًا جذرية لظاهرة باتت هى المشهد الرئيسى والأساسى لموسم الامتحانات.

“المشهد الإفسادى” هو ناتج طبيعى ومنطقى ومقبول ومبهر لعملية “تسليع التعليم” والتى نعيشها من سنوات طويلة.. نعم التعليم صار سلعة ومن يقول غير ذلك يدفن رأسه فى الرمال كالنعامة ويعتقد أن لا أحد يراه.. سلعة معك حقها تحصل عليها بسهولة ويسر.. ليس معك لن تحصل على شيء.

“تسليع التعليم” يهدد مستقبلنا جميعًا ،فالتجارب كلها تقول إن كل الدول التى نجحت فى الخروج من أزماتها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية كانت كلمة السر هى التعليم.. فالتعليم هو تلك المضخة التى تمد مشروعات التنمية بالكفاءات البشرية القادرة على تنفيذها... التعليم هو الإجابة عن كافة الأسئلة ، فلا حل لمشكلات الفقر والمرض إلا بالتعليم.. لا أمل فى نمو الاقتصاد والزراعة والصناعة والخدمات إلا بالتعليم.... لا نجاة من الإرهاب والتطرف إلا بالتعليم.

“محمد على” لم يبن دولة حديثة قوية ولم تنجح تجربته فى مصر إلا من خلال الاهتمام بالتعليم المجانى وبناء المدارس..وإرسال البعثات للدراسة فى أوروبا والعودة لإصلاح النظام التعليمى، وتأسيس نظام قوى وحديث، أنتج جيلًا واعيًا ومتحملا للمسئولية وقادرا على التغيير والنهوض بالبلاد.

فنلندا أصبحت أقوى دولة فى التعليم عالمياً، لأن أحد المبادئ الأساسية للتعليم هو “المجانية” ضرورة تكافؤ الفرص وتمتع جميع الأطفال بحق الوصول المتكافئ للتعليم والتدريب على الجودة، وإتاحة نفس فرص التعليم لكل المواطنين بغض النظر عن أصلهم العرقى أو السن أو مكان إقامتهم.. تعليم مجانى لكل المراحل ، بداية من مرحلة ما قبل الابتدائى وصولاً لمرحلة التعليم العالى... توفير الكتب الدراسية بنفس الاهتمام بتوفير الوجبات الغذائية اليومية ووسائل النقل للطلاب المقيمين بعيداً عن المدرسة مجاناً فى مرحلة التعليم قبل الابتدائى والتعليم الأساسى.

“ألمانيا” سر تقدمها التعليم المجانى.. التعليم الخاص هناك جريمة يعاقب عليها القانون.. سر تقدمها تكافؤ الفرص وإعطاء الجميع الحق فى الحصول على تعليم حقيقى.. فرص يتساوى فيها الغنى مع الفقير.. لا فرق بين طفل وطفل..هناك لن تسمع “ده ابن مين.. ويمتحن فى عربيته.. وده ابن مين.. و ينقل لمدرسة بعيدة مشهور عنها أن الإمتحانات يتم تسريبها فيها والطلبة تغش ويتخرج منها الأوائل دائمًا “.

فى ألمانيا كل الأطفال سواسية كأسنان المشط..الجد والاجتهاد فقط هو طريقك للدراسة المهنية أو استكمال طريقك للجامعة.. نظام دقيق لا يظلم أحدا.. يسمح بخروج الإبداع وظهور المواهب فى كل المجالات.. كل الأطفال من حقهم الحصول على طعام صحى وترفيه ورياضة وحتى استقرار أسرى وإذا لم يكن هذا الاستقرار موجودا وفرته الدولة بقوة القانون.. فهناك لن يسمح بخلق أجيال مشوهة نفسيا بسبب أسرة مفككة.. يتم أخذ الطفل فورا وإعطاؤه لأسرة بديلة لينمو فى ظروف طبيعية.. هناك يدرس جميع الأطفال 4 سنوات فى المرحلة الإبتدائية ثم يأتي التقسيم - مجتهدين جدا... ومجتهدين..ولا بأس به.. ومتوسط.. وضعيف... وكل قسم يذهب لدراسة ما يناسبه.. والحكاية ليست نهائية، فالطفل الذى يجتهد ينتقل من قسم إلى قسم أعلى، ومن لا يجتهد ينزل إلى قسم أقل وهكذا حتى نهاية الدراسة الإلزامية.

ألم أقل لكم أن المشهد الإفسادى الاستفزازى لمدرس الفلسفة تحد لنا جميعًا.. إفساد لأجيال قادمة.. تحد واضح وعلنى لسلطة دولة منعت الدروس الخصوصية وأعلنت الانتصار على “السناتر”.

ألم أقل لكم أن المشهد الإفسادى.. كشف عورات أولياء الأمور.. وعورات منظومة تعليمية تهتم أكثر بتحصيل درجات فى سنة واحدة و لا يهم كيف تحصل عليها.. ومع ذلك تحدد مستقبل أجيال كاملة وتتحكم فى حياتهم القادمة.