السبت 27 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
الفيـل

الفيـل

«القهاوى» حياة متكاملة.. فيها كل شيء، التعصب والرضا.. السياسة والاقتصاد، المتعة واللهو، الجد والعمل.. فى القهاوى نماذج لكل الطبقات.. الكراسى المتراصة تعلن فى الظاهر أن الكل سواسية لا فرق بينهم.. وفى الحقيقة عوالم مختلفة، فكل سنتيمتر فى الواقع الفاصل بين الكراسى قد يمثل سنوات ضوئية بين الرواد. 



فلكل شخص على القهوة حكاية مختلفة، ولكل منهم عالمه الخاص.. مراقبة الوجوه فى المقهى عادة سيئة لا أستطيع التخلص منها.

 من يجلس فى آخر المقهى شاردا بالتأكيد يفكر فى الأقساط التى يجب أن يدفعها وحان وقتها والجيب خالي الوفاض.. الذى يضحك بصوت عال مع الجالس بجواره حزين ومهموم.. تقاسيم وجهه تشى بالتعب والإجهاد، وصوت ضحكته محاولة أخيرة للنجاة من الحزن الدفين.. الهادئ المبتسم فى منتصف القهوة بداخله غليان لا أول له ولا آخر.

من يومين صادفت أغرب ما يمكن أن تجده على القهوة.. شاب فى الثلاثينيات تقريبا كل ما فيه يوحى بالتدين.. أزرار القميص المغلقة بإحكام حول الرقبة..والأكمام المقفولة رغم الحر.. ذقنه الذى لم يعرف التهذيب من وقت طويل.. مشروب الينسون الذى يحتسيه بهدوء.. كل شيء يوحى بتدينه وتوتره وقلقه.. بالتأكيد ينتظر أحدا فعيناه لا تفارقان باب المقهى.

 دقائق وجاء إليه من ينتظره.. شاب يكبره بسنوات قليلة ومظهره لا يفرق كثيرا عنه... قربى منهما جعلنى أستمع للحوار..

- يا سيدى ماتقلقش.. أنا جاى لك من آخر الدنيا فى عز الحر وأنت بردو قلقان ومتوتر - أنا مانمتش.. والسؤال هيجننى.

انتبهت كل حواسى.. بالتأكيد الشاب يمر بأزمة نفسية طاحنة.. أزمة حرمته النوم أصابته بالتوتر والقلق، وقبل أن أتدخل فى الحوار فاجأنى ما يقوله.. السؤال الصعب الذى يحيره.. هو الحيوانات هتتحاسب زيينا ولا لأ.

 سبب سؤال الشاب أن كلبا عضه من يومين وبدأ يأخذ مصل الكلب.. لكن الواقعة أثارت فى ذهنه أسئلة من نوعية .. هل عضة الكلب عقاب له على تقصيره فى أداء الفرائض أم اختبار لقياس مدى صبره وتحمله من باب أن “المؤمن منصاب”.

 السؤال الذى حيره طويلا وطير النوم من عينه.. هل الكلب سيحاسب على عضته.. وهل الحيوانات ستحاسب على افعالها.. وهل فيها الطيب والشرير.. وأين سيذهب الشرير بعد الموت وأين سيذهب الطيب؟

قبل أن استمع للإجابة من الشاب الذى جاءه على عجل لينقذه من حيرته ويخلصه من قلقه شردت فى حكاية الطيب والشرير فى الحيوانات.. وتعجبت من سلوك الفيل.. القوى المسالم، بدن ضخم ومشاعر جياشة.

للفــيلة جلد رمـــادى اللون سميك وطرى يتدلى أحيانا على هيئة ثنيات مترهلة... ويصل سمك جلد الفيل المكتمل النمو حوالى 3سم، ويزن حوالى 900كجم. ورغم ذلك تستطيع بعض الحــشرات بما فيها الذباب عضه وإيلامه!.

للفيل ذاكرة بالغة القوة ويتمتع بدرجة ذكاء عالية بين الحيوانات ويستطيع وفق ما أثبتته الدراسات إصدار 25 نداء مختلفًا على الأقل، ولكل منها معنى خاص به ويبدو أن كبيرة العائلة “الأم القائدة” هى المسئولة عن حفظ المعلومات التى يحتاج إليها أفراد العائلة، فهى تعرف طرق التنقل وأماكن الثمار والأشجار وأين تجد الماء فى ظروف الجفاف وغير ذلك من المعلومات الضرورية للحياة وهى تنقل هذه المعلومات إلى صغار إناثها التى ستتولى إحداها المسئولية فى المستقبل، نذكر الفيل ذاكرته لا تصلح لهذه المهمة وطباعه لا تؤهله للقيادة.

«طيبة الفيل» ومشاعره الجياشة سبب عذابه الدائم.. ففى عملية نقل الفيل من مكان يتم وضع قفص صغير به كتاكيت معه.

 يظل الفيل ثابتا فى مكانه ساعات طويلة لا يتحرك خوفا من دهس الكتاكيت وموتها.. يتعذب طوال الطريق وقد يكون فى هذا الطريق نهايته وابتعاده للأبد عن أسرته وحياته ويتحول إلى مجرد مهرج فى السيرك يضحك الناس عليه... نعم الفيلة تعيش كأسر وتتملكها أحاسيس وجدانية مثلنا تمامًا... وبسبب وعيها المعقد، تستطيع هذه الحيوانات الشعور بالفرح، والغضب، والتعاطف، وأيضًا الحب.

«الصيادون الأشرار» يعرفون كل شيء عن الفيل وفى عملية اصطياده يبتزون مشاعره لآخر مدى.. يحفرون له حفرة كبيرة فى الطريق ويغطونها بالأشجار.. يسقط الفيل ويصبح محاصرا.. ينقسم الصيادون إلى أشرار وأخيار.

الأشرار يرتدون اللون الأحمر والأخيار اللون الأزرق، وهما اللونان اللذان يستطيع الفيل أن يميزهما.  ومع صباح كل يوم يأتى الفريق الأحمر ويظل يضرب ويعذب الفيل المسكين المحاصر فى الحفرة وهو يبكى ولا يملك من أمره شيئا.. وفجأة يظهر الفريق الأزرق يطرد الأشرار ويقدمون له الماء والطعام ويتركونه فى الحفرة.

 وكل يوم يتكرر نفس المشهد تعذيب وضرب لدرجة أنه يستسلم تماما لمصيره المحتوم.. وفجأة يظهر الأخيار ويطردون الأشرار ويقدمون له الماء والطعام وهو سعيد بمن يدافعون عنه.. بعد أيام كثيرة يأتى الفريق الأزرق ويسحب الفيل ويمهد له طريق الخروج فيخرج معهم هادئا مستكينا مطيعا مؤدبا ويذهب إلى السيرك للمتعة أو إلى القتل للحصول على أنيابه العاجية.

يذهب معهم راضيًا مستكينًا لا يسأل نفسه لماذا تركوه في العذاب طوال الفترة الماضية طالما في استطاعتهم إنقاذه من أول يوم.

احذر أن تكون كالفيل تستسلم لمن يبتزون مشاعرك ويتخذون من طيبتك وإنسانيتك طريقًا لتدميرك والفوز بكل المكاسب والمغانم.