
د. طارق الغنام
صُناع الفرق
اقتضت سنة الله فى كونه التنوع والاختلاف، إذ شاءت حكمته سبحانه أن يقوم هذا الكون على الاختلاف فى كل شىء، فهناك النهار والليل، والشتاء والصيف، والبرد والحر، والفرح والحزن، وكذلك هناك اختلاف وتنوع فى الفكر، ولكن ما كان التنوع والاختلاف فى الفكر لينشأ لولا التأرجح بين احترام الفكر القائم وبين نقده، ففطرة الإنسان قائمة على طرح الأسئلة على الدوام، فمن خلال هذه الفطرة العقلية المبنية على استدامة التطوير والتطور يخرج التفكير بشكل مختلف أو غير تقليدى، وبالتالى تخرج سنا الأفكار الخلاقة والفريدة من غسق الرتابة والروتين، لتضىء الطريق وتحمل الإنسان إلى آفاق جديدة تدور وجوداً وعدماً بوجود الإنسان، فالتجارب البشرية فى كل زمان ومكان والتى كانت مزيجاً من النجاح والفشل خلال رحلة الإنسان على الأرض ما كانت لتنطلق إلا من خلال هذه الفطرة العقلية التى تدعوه دائما للتساؤل، فلولا هذه النزعة الفطرية لما عُمرت بقاع الأرض ولما اكُتشفت كل العلوم والمعارف.
فإذا كان التساؤل إحدى ركائز العملية العقلية فإن الإبداع يعد أحد العناصر الأساسية لهذه العملية، فالإبداع سمة وجودية قرينة بالإنسان منذ بداية الخليقة، وهى سمة طليقة فى حياة البشر لا يمكن تقيدها على مستوى الفرد ولكن يمكن تقيد وصولها للآخرين، فالمبدع هو ذلك الذى يقوم بفعل أشياء غير معتادة وبطرق مختلفة، وإيجاد علاقات جديدة بين الأشياء وبعضها البعض، ويتمتع بقدرات فائقة على التخيل وإعادة التكوين بصورة جديدة، فهو قادر على إيجاد الفرق بين وضع قائم؛ وضع جديد زاخر بالتميز يغير وجهة بيئة العمل، والمبدع هو ذلك الذى لا يتبع الممارسات التى تتصف بالجمود، وإنما يثور عليها بطريقة إبداعية خارجة عن المألوف، «فجيف بيزوس» صاحب فكرة «أمازون» عمل على خطة لإطلاق أول مكتبة على الإنترنت لبيع الكتب، فى الوقت الذى كان فيه استخدام الإنترنت غير منتشر بين الناس، وتقدم لكثير من المستثمرين بفكرة موقع «أمازون»، ولكنهم رفضوا فكرته بحجة محدودية استخدام الإنترنت فى ذلك الوقت، ولأنها كانت بنظرهم فكرةً غير اعتيادية، إلا أن هذه الفكرة فيما بعد أثبتت نجاحها، إذ أصبحت «أمازون» أكبر متجر للتجزئة فى العالم، وثانى أكبر شركة من حيث القيمة السوقية.
وتأسيساً على ما سبق، فإذا كانت معظم بيئات العمل مقيدة بقواعد تقليدية، يضعها اللاعبون الكبار بحكم تجاربهم وخبراتهم، فإن الخروج عن هذه القواعد بأفكار إبداعية يشكل تحدياً كبيراً، لأن الخروج عن الأفكار التقليدية يعنى بكل بساطة القدرة على صناعة الفارق بين الأفكار التقليدية التى يستظل فى حماها أصحاب العقول الجامدة والقدرات المحدودة، وبين الأفكار الإبداعية.. فالقادرون على صنع الفارق ينبغى ألا نقف حجر عثرة فى طريقهم، وإنما ينبغى أن نقدرهم وندعمهم ونشجع فهمهم العميق لمجال العمل ووجهات نظرهم المتفرّدة، ورؤاهم المتجدّدة، وأن نقاوم أنفسنا عندما نجنح إلى التحيز للأفكار المعتادة، وأن نجعل عقولنا أكثر انفتاحا، ونطلقها من أسر الفكر الحتمى إلى رحابة الفكر الاحتمالى والتناسبى اللذين يعكسان التنوع الفكرى، فالفكر الحتمى الذى يتسم بالجمود على المدى الطويل يضر أكثر مما ينفع، وعلى النقيض من ذلك فإن الفكر الاحتمالى ينفع أكثر مما يضر، فمن خلاله تُثرى بيئة العمل وتنتقل إلى آفاق واسعة تتناسب مع العالم الذى نعيشه الذى يتصف بالتعقيد، وهذا يقتضى استبدال منهج القيادة الشمولى ببيئة العمل الذى غالباً ما يتسم بالتحيز بمنهج العمل المفتوح القائم على تنوع الأفكار.