الجمعة 29 مارس 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
احمد باشا
الذئاب

الذئاب

الأسود والنمور والفيلة والخنازير والقرود  وحتى أفراس النهر والدببة يمتلئ بها  السيرك.. تقدم عروضًا وترتضى المهانة.. أما الذئب فلا تغريه الأضواء الساطعة ولا يهوى التصفيق والصخب والضجيج.. لا يقايض حريته بأى ثمن لا يستبدل عرينه بقفص من ذهب. «الذئب» لا يشارك فى السيرك.. عنقه عصى على اللى.. لا يقايض على احترامه.. لا يستعرض ولا يبتذل نفسه بعروض بهلوانية لإمتاع الجمهور وإرضاء المدربين الأسياد ممن يحملون الكرباج فى يد وقطعة اللحم فى اليد الأخرى.



«الذئب» يعيش على الفطرة والحرية  لا يتحمل أقفاص السيرك، وإذا وضعوه فيها تألم فى صمت، ولو ضربوه بالكرابيج، ولو قطعوه ،أو هشموا عظامه كلها لن تسمع له صوت إلى أن يموت، لن يعطى آسريه فرحة  التشفى... لحظة انتصار وهمية.. فنفسه الأبية تأبى الأسر ولا يتحمله.. يتوقف عن العواء والتكاثر والأكل، فهو لايأكل إلا ما يصطاده بنفسه، ولا يقرب الجيفة ويظل هكذا حتى يموت.. لذلك لن تجد أبدًا ذئبًا فى السيرك.. لن تجده دمية يحركها المدرب كيفما شاء، ومع كل «طرقعة» من كرباجه يتقلب يمينًا ويسارًا ،أو يقفز من حلقة النار.. لن يعطيك متعة أن تراه بهلوانًا مهرجًا مبتذلًا.. دائمًا ستجده قويًا ،عزة نفسه هى أعز ما يملك.

«الذئب» مظلوم على مدار التاريخ.. مع أن كل صفاته رائعة.. ذكاء حاد قدرة عالية على التخطيط للهجمات وتنظيم المجموعات بطريقة منظمة جدًا للصيد وصد الهجمات... صفات قد لا تجدها فى الإنسان.. فالذئب لا يخون.. يعيش رجلًا حقيقيًا.. يدافع عن أسرته وبيته وشرفه حتى الرمق الأخير.. منطقة نفوذه التى يحددها من أول يوم  زواج لا يسمح لأحد أن يقترب منها.. ولا يسمح لأحد باللهو فيها.. يعيش وفيًا يصطاد ولا يأكل الجيفة.. يأتى بالطعام لأنثاه وصغاره ووالديه.. نعم الذئب ابن بار بوالديه لن يتركهما فى الكبر.. فهناك لن تسمع عن دار للمسنين الذئاب.. ولن تجد ابنًا ذئبًا يطمع فى عرين أبيه فيطرده ويتركه فى الشارع يتسول اللقمة كى يعيش .

 

يُلقب الذئب بالابن البار لأنه الحيوان الوحيد الذى يبر والديه بعد وصولهما لمرحلة الشيخوخة وعدم القدرة على مجاراة القطيع فى الصيد فيبقى الأبوان فى العرين ويصطاد لهما الأبناء ويطعمونهما ...ففى مملكة الذئاب ، الأسرة لها قدسية خاصة.. الشباب  يصيدون الفرائس ويأتون بها إلى عرينهم ..يتشاركون الأكل مع الزوحة والآباء والأمهات والأشبال الصغار.

وفى ظنى أن ظلمنا للذئب جاء من باب الغيرة والنظرة الدونية لأنفسنا فى مواجهة هذا الأبى صاحب الكرامة والكبرياء.. فالحكايات القديمة كلها تنال من هيبة الذئب لا لشىء سوى أن به صفات ومزايا لا ينالها الإنسان إلا بشق الأنفس ولا ينالها إلا كل ذي حظ عظيم.. وما قصة ليلى ذات الرداء الأحمر والذئب التى كانت القصة المفضلة للحكى ما قبل النوم إلا جزء من هذه الغيرة والمحاولات المستميتة للنيل من شرف وسمعة الذئاب.. فليلى ذات الرداء الأحمر الجميلة المطيعة المهذبة تلتقى الذئب فى الطريق لبيت جدتها  المريضة.. ويحاول الذئب أن يقنعها باللعب معه، ويسمعها كلمات كلها إطراء لتثق فيه تمهيدًا لافتراسها.. وليلى تنخدع به وتقول له” أنت ذئب لطيف أتمنى أن نصبح أصدقاء” ويضحك هو فى خبث؛ لأن خطته نجحت، وأصبحت تثق فيه وتدله على عنوان الجدة المريضة  ،ولسبب لم يذكروه لنا أبدًا فى قصة قبل النوم لا يفترسها، ويفكر فى الذهاب إلى بيت جدتها ،ينتظرها هناك ليفترسها.. ما الذى منعه من افتراسها فى الطريق.. لا أحد يسأل، ولا أحد يجيب ،فالحكاية لا بد أن تكتمل للنهاية ؛كى ننام نومًا عميقًا ،ونحلم أحلامًا سعيدة ،وننتظر أن ينقذنا الصياد المار بالدفة ويسمع استغاثة ليلى، والذئب يهم بافتراسها ،فيلبى النداء وينقذها من الذئب الشرير ويجدان الجدة الطيبة المريضة مختبئة من الذئب ،تاركة حفيدتها تواجه مصيرها المحتوم!

«الذئب» أرقى من أن يرتضى بأى شىء.. فإذا ذهب للصيد يختار أفضل وأجمل فريسة وإذا شبع منها لن يعود لها حتى لو مات جوعًا.. وإذا اختار زوجة صار مثلًا فى الوفاء.. فالذئب لا يعرف الخيانة ولا يعرف اختلاط الأنساب.. لا يرتضى  لنفسه مهانة الزواج بأخته أو أمه مثل باقى الحيوانات... وأنثى الذئب التى تسمى بـ«السرحانة» عندما تجد شريك حياتها فإنها تعيش معه طول حياتها مخلصة له ولا تستبدله بآخر حتى بعد موته، وإذا حملت صارت ملكة متوجة يأتيها الطعام حتى تلد فتخفى صغارها فى كهف والكل يعمل لإسعادها وإطعامها هى وصغارها.. وذكر الذئب لا يعاشر أنثى أخرى حين يكون مرتبطًا بزوجة، حتى لا يضيع ويتفرق نسله، وفى الغالب الأعم يظل وفيًا لزوجته حتى آخر العمر.. وإذا توفيت حزن عليها وعف وزهد فى الدنيا وما فيها.. وفى الغالب الأعم أيضًا ينهى حياته منتحرًا حزنًا على فراق زوجته.

وفاء منقطع النظير.. يتزوج ذئبة واحدة ويخلص لها.. وفى حالة موت أحد الزوجين يقيم من عاش منهما حدادًا لمدة لا تقل عن ثلاثة أشهر وقد تستمر سنة كاملة تصاحبها حالات انتحار وقليل ما يبقى أحد الزوجين على قيد الحياة.. فالذئب لا يطيق الدنيا إلا مع من أحب... لا أريد هنا أن أقارن سلوكه بسلوك الإنسان.. فالمقارنة سوف تظلم الذئب كثيرًا... فلذلك عندما يطلقون لقب الذئب على رجل ،فهم يأملون به أن يحمل صفات الذئب مثل الشجاعة والوفاء للقطيع والوفاء للزوجة والتنزه عن السفاسف ،وأن يكون عزيز النفس وبارًا بوالديه... كن ذئبًا فالذئب يجرى لنفسه  والكلب يجرى لأسياده.