السبت 27 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
‎«العصفورة»

‎«العصفورة»

‎من طيرانها فى السماء تعلمنا الطموح.. التطلع للأعلى فعلًا ومجازًا.. الحلم بمستقبل أفضل وعالم مفتوح نفرد فيه أجنحتنا على آخرها لنصل إلى الحرية والسلام... منها تعلمنا الحكمة وعرفنا بناء البيوت.. ونقلنا أول خبر جاء به الهدهد إلى سيدنا سليمان.. منها عرفنا التفاؤل والتشاؤم وأصبحت مصدر إلهامنا الثقافى والعلمى... عن الطيور أحدثكم.. وإن كانت  ليست كل الطيور طيورًا.. فالبطريق والنعام بمقاييس العلم طيور.. وبرؤى العين لا تطير!



‎الحديث عن الطيور يطول... فالعلاقة ما بين البشر والطير فريدة من نوعها، تتجاور فيها مشاعر الحُب والاستلطاف مع  القتل من دون رحمة، على طريقة إعدام الكتاكيت بزعم عدم وجود أعلاف كما قال البعض أو حتى بهدف استمرار المكاسب والبيع  سواء بيضًا وصلت الواحدة منه لثلاثة جنيهات أو لحمًا بأسعار تتحدد يوميًا حسب الهوى.

‎علاقة الإنسان بالطير تتجاور فيها أيضًا المصالح الاستغلالية مع  الشاعرية والحب.. انظر إلى جمال هذا العصفور الذى يغنى على الشجرة.. تأمل ريشه المنفوش الجميل، من دقائق فقط كان يسرق جهود فلاح فقير ويأكل من زرعه دون استئذان.. نعم هذا هو العصفور الذى تراه  أنت جميلًا رقيقًا حاملًا رسائل الحب والهيام والغرام وتطربك  تغريدة صوته العذب.. لا يرى فيه المزارع الغلبان غير لص يسرق ثمرة تعبه ومجهوده بدم بارد.. ينصب له «خيال المآته» وسط الحقل ليخيفه ويبعده عن الزرع الذى أدمن سرقته.. والغريب أنه فعلًا يخاف ويهرب من خيال المآته الذى لا يملك هو الآخر لنفسه خيرًا أو شرًا ..مجرد وهم  يقف منتصبًا فاردًا ذراعيه وكأنه سيضم حبيبًا غاليًا وفى الحقيقة  مثل العصفور اللص، ما يبديه ويخدع الناس به  عكس ما يخفيه.

‎الطيور عالم متكامل.. يهمنى من هذا العالم اليوم «العصفورة» حاملة رسائل الحب والجمال والتى نفتتن بها وبصوتها العذب.. وفى الوقت نفسه نصف بها كل قبيح فى عامل دأب على أن يكون عين المدير بين زملائه.. يبلغه بجميع تحركاتهم وهمساتهم خارج وداخل العمل، نوع من البشر هم ورثة «العصفورة قالت لى»، تلك العبارة التى اعتدنا سماعها فى صغرنا من والدينا عندما كنا نجتهد لنخفى أمرًا ما عنهما، لكنّنا لم نكن نتخيل أن نكبر يومًا لنكتشف بأن العصفورة حقيقيةٌ، وليست من نسج الخيال... «عصفورة» من نوع آخر تنعق كما البوم من أجل التقرب والتودد من رئيسه للحصول على امتيازات شخصية...عصفورة تثير الفتن بين الزملاء فى العمل، وتفشى الأسرار وتتدخل فى الأمور الشخصية، وتكره النجاح للغير... تتقن النقل لمن ليس له عقل.

‎«العصفورة» تراث مصرى خالص نتفنن فى التقرب منها.. منذ الصغر وحتى النهاية.. وأنت طفل سيلعب معك والداك لعبة «بص العصفورة» وعندما تنتبه كل حواسك وتتجه ناحية الإصبع الممتد ستفاجأ «بالزغزغة» فتنتفض ضاحكًا سعيدًا وتتكرر اللعبة ورغم يقينك أن «الزغزغة» قادمة إلا أنك تستحلب اللحظة تقتاتها وتمضغها على مهل على أمل ضحكة صافية تخرج من القلب.. نكبر وتكبر معنا «بص العصفورة» لا نتعلم أبدًا فى كل مرة نذهب مع بص العصفورة لآخر مدى، مغيبين ربما، طامعين احتمال، لكن بالتأكيد آملين فى أن تخرج الضحكة من القلب كما كنا صغارًا، أن تصدق العصفورة ولو لمرة واحدة ونراها تقف بريشها الملون تمنحنا الأمل وتغريدة جميلة تطيب قلوبنا..

‎«العصفورة» حاضرة أيضًا فى أمثالنا الشعبية.. عصفور فى اليد خير من عشرة على الشجرة... وهناك روايتان حول أصل المثل.. الأولى هى حكاية طويلة كل أبطالها من البشر، وعصفور فيها اسم رجل... أما الثانية، وهى الشائعة والأبسط فتقول إن شخصًا كان يحمل عصفورًا بيده، وأثناء سيره وجد مجموعةً من العصافير على الشجرة، فطمع بها وترك العصفور الذى بيده ليتسلق الشجرة ويحصل على مجموعة العصافير العشرة، ولكنّ العصافير، مع الأسف، طارت وطار معها عصفور اليد وصار صاحبنا خاوى اليدين. 

‎ورغم أن الشائع عن المثل هو محاربة الطمع إلا أنى أراه نوعًا آخر من «بص العصفورة».. تدريب قاسِ على الطاعة والرضا بما فى يديك لا تحلم بأكثر من ذلك.. لا تطمح فالطموح طمع مذموم، فبدل من أن يُقدّم الإنسان جهدًا مضاعفًا ليحصد النجاح الذى يطمح إليه، عليه بالاستكانة والسكون والصمت وإلا كان طامعًا  تهون التضحية بما لديه من النعم حتى لو كان هو نفسه لا يرى هذه النعم فالأهم أن يراها ولى النعم.

‎ألم أقل لكم أن عالم الطيور  مثير ومليء بالحكايات.. يكثر فيه الكذب والغش والخداع والتمويه، فمعظم الطيور إن لم يكن كلها  كما البشر تمامًا، إلا أن الطيور تميز بين الخير والشر وقد تراها تدافع عن الخير والحق والعدل أكثر مما يفعل الإنسان.