الأربعاء 15 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

واحة الغروب فى وداع بهاء طاهر..

شيوعى رغم أنفه يقابل حبه فى المنفى

«لا أفهم معنى للموت.. لكن ما دام محتّماً فلنفعل شيئاً يبرر حياتنا، فلنترك بصمة على هذه الأرض قبل أن نغادرها»..كلماته دونت له تاريخاً فى نفوس قرائه وأصدقائه دماثة الخلق وطباعه الطيبة تركت بصمتها قبل رحيل بهاء طاهر إلى واحة الغروب إذ غيبه الموت مساء الخميس عن عمر ناهز الـ 87 عاما وأعقب رحيله سيل من المقالات والمنشورات والتعليقات التى تثنى على الجانب الإنسانى أو الوجه الآخر للكاتب الكبير الذى لا يعرفه القراء قدر الأصدقاء وزملاء القلم فى ساحة الأدب.



بداية متأخرة 

ولد بهاء طاهر بمحافظة الجيزة  فى 13 يناير من عام 1935 من أسرة صعيدية، كان الأب أزهريًا صارمًا، وقد كان الأستاذ «بهاء» آخر إخوته التسعة، ولقد أنجبه والده وهو فى الخامسة والخمسين من عمره، وبعدها أُحيل والده للتقاعد وهو فى عمر الستين، أما الأم فكانت أُمية، ولكنها كانت ينبوعًا من الحنان، ونهرًا من الحكايات والقصص والتى زرعت فى  بهاء صاحبنا حب الحكيّ والقص، ولفضل أمه عليه كتب لها فى أولى رواياته “شرق النخيل” إهداءً 

بدايات بهاء طاهر جاءت متأخرة فى سن الـ37 فبعد نشر قصته الأولى، احتاج إلى 6 سنوات لكى ينشر مجموعته القصصية الأولى «الخطوبة» (1972) التى اعتبرها النقاد وقتها «فتحاً فى الكتابة الجديدة»، مخالفاً لما كان سائداً وقتها.

كان عالم قصص بهاء طاهر - حسبما وصفه الناقد صبرى حافظ - «عالماً عارياً من الزوائد والإضافات، شديد الكثافة والاقتصاد، يبدو وكأنه بالغ الحياد أو واقع على حدود اللامبالاة، ولكنه تحت هذا الرداء الحيادى الخادع بالعواطف والأشواق والصبوات الإنسانية البسيطة والمستعصية معاً».

وتحكى المجموعة عن إنسان يحاول التعبير عن نفسهِ فيواجه بالقمع، وكان ذلك القمع سمة من سمات مرحلة العصر الناصرى.

وعنه يقول القاص الكبير د.أحمد الخميسى «كان لدى لقاء ببرنامج كاتب وقصة مع أ.أحمد عباس صالح رئيس تحرير مجلة الكاتب والتقيت بهاء طاهر كنت أعرفه منذ الصغر وقال لى أنه قرأ قصتى الأخيرة فى مجلة الكاتب «استرجاع الأحلام» وكانت على قصة على ثلاث مقاطع فقال لى «أنت غيرت حاجة فى المقطع الثانى  وانت بتكتبها « فى الحقيقة لقد ذهلت فأنا بالفعل وأنا أكتب القصة وأعيد صياغتها أعدت كتابة المقطع الثانى منها بإضافة بعض التعديلات ولا يمكن لأحد أن يلمس ذلك أو يحدده بهذه الدقة إلا إذا كان كاتبا مخضرما.

وتابع الخميسى التقيته بعدها وصرنا أصدقاء وجمعتنا مواقف عدة على مدار سنوات طويلة.

كان إنسان عفيف اللسان والنفس ويدعم الشباب أذكر عندما قام ناشر مجموعتى القصصية بتقديمها لجائزة ساويرس لم أكن أعلم عنها شيئاً فاتصلت به أسأله عن طبيعتها فأثنى عليها وقال إنه لولا أنه لا يرى أن يزاحم شباب الأدباء لتقدم إليها.

وقال الروائى الكبير إبراهيم عبدالمجيد أنه أسعده الحظ أن عرف طريق إذاعة البرنامج الثانى حيث كان طاهر يخصص برنامجا للشباب فأرسل إليه قصة ثم مقالا فأذاعهما طاهر وقام بالتعليق عليهما.

وأضاف عبدالمجيد «التقينا فى زياراتى للقاهرة قبل أن أستقر بها، فوجدته إنسانا بسيطا يستمع إليك ولا يذكر أحدا بسوء، وأحيانا كنا نطلب زيارته لنا فى قصر ثقافة الحرية فى الإسكندرية فيأتى يناقش قصصنا ونسهر سهرة جميلة فى المقهى وهكذا». 

وتابع: «عندما سافر بهاء طاهر إلى أوروبا كنت أتابع ما ينشر، حتى التقينا عام 1994 فى باريس فى معرض الكتاب بدعوة من معهد العالم العربى، وكنا فيها حوالى عشرة من الكتاب، كان سعيدا بما أكتب وبعد أن عاد، كانت لى زيارة تقريبا كل أسبوع إلى حى الزمالك حيث يقطن».

عمدة الرواية

وعلى المستوى الأدبى يقول الخميسى عندما قرأت قصته الأولى فى مجلة الكاتب وهى كانت أولى مجموعته القصصية التى تحمل عنوان «الخطوبة» أبهرنى تناوله لغياب الديمقراطية فى العهد الناصرى بدقة وذكاء ولباقة غير اعتيادية كيف تناول قضية كهذه دون الخوض الشعارات المجوفة والعبارات الدعائية التى انتشرت آنذاك وهو أول ما لفت نظرى لأدب بهاء طاهر.

كذلك رواية خالتى صفية والدير كيف تناول حياة الأقباط والمسلمين فى الصعيد وتداخلهم وسرد قضية محورية مثل التمييز الدينى والوحدة الوطنية بين فئات الشعب الذى ينتمى إلى طينة واحدة تحمل نفس التفاصيل والتداخلات وأسلوب التربية وطبيعة الحياة، كيف تعرض لشخصيتين مثل حربى وصفية وصراعهما على خلفية الدير وهو حياة الأقباط. وقال عبدالمجيد إن بهاء طاهر «من المغامرين الكبار فى تجديد شكل القصة وليس مجرد شخص يحكى، فالقصة عنده ليست التقليدية بداية ووسط ونهاية، بل يمكن أن تبدأ من أى نقطة وتنتهى نهاية مفتوحة وتكون لحظة الذروة خفية تدركها بعد أن تنتهى القصة».

بدوره، قال الروائى والقاص فكرى داود إن بهاء طاهر هو كاتب كبير وإنسان نبيل صاحب مدرسة إبداعية متميزة، بالعمق والبساطة والتنوع، سواء كان روائيا أو قاصا أو مترجما، كمبدع أصيل ينتمى إلى الصعيد وإلى مصر وإلى العروبة وإلى إفريقيا.

وأضاف داود أن طاهر عبر عن آمال وآلام الإنسان عامة، وعمن ينتمى إليهم، فى إطار فنى ولغوى ممتع ومعبر فى آن، منذ مجموعته الأولى الخطوبة، وأنا الملك جئت وبالأمس حلمت بك، وغيرها من المجموعات القصصية والروائية مثل: خالتى صفية والدير، والحب فى المنفى ونقطة النور، وأبناء رفاعة وواحة الغروب.

وأوضح أن طاهر هو مبدع كلما ارتقى فنيا وإبداعيا، ازداد تواضعا وبساطة، لافتا إلى أن كل عمل من أعمال بهاء طاهر جاء بخصوصية مختلفة سواء فى تقنية الكتابة، أو فى الموضوع. وقال إنه لم يكن غريباً أن يتم تكريم طاهر، من الدولة ووزارة الثقافة فى مناسبة افتتاح قصر الثقافة بالأقصر الذى يحمل اسمه، والذى تبرع بأرض يمتلكها لإقامته عليها خدمة للثقافة والمثقفين، ولا عجب من فوزه بالعديد من الجوائز العالمية.

وكتب الروائى والكاتب الصحفى أشرف عبد الشافى على حسابه الخاص عبر موقع فيسبوك يقول: «على المقاهى المحدودة والمعروفة فى وسط القاهرة منتصف التسعينيات ومع الصدى الواسع لـ«قالت ضحى» كان من الصعب أن تجد صديقا لم يقرأ الرواية، فكل ما فيها بسيط وجمال أخاذ، ووسط حماسى الزائد دائما لكل ما جميل قلت لصديقى الشاعر «سيد محمود»: نفسى أخلف بنت واسميها ضحى.. وقال هو: وأنا كمان يخرب عقلك، وخرب عقلى بالفعل وتزوجتُ قبله بعامين تقريبا وسبقته فى إنجاب البنت ضحى».

لا يستعير أصابع غيره

بهاء طاهر منذ أن نشر فى مارس 1964 بمجلة «الكاتب» قصته الأولى «المظاهرة»، وهى القصة التى احتفى بها وقتها الكاتب الكبير يوسف إدريس (1927 -1991) وكتب يبشر بالكاتب الشاب الجديد «الذى لا يستعير أصابع غيره».

ووصف طاهر بأنه «إنسان مختلف، استطاع أن يدلف إلى قصر القصة المسحور، وأن يعثر فى سراديبه المظلمة على الخيط الأساسى لصناعة القصة، وهى مسألة مهمة وخطيرة، فالإنسان لا يعثر على نفسه أو على الخيط الأساسى لقصته هكذا بسهولة ومن أول ضربة أو قصة، إن ما أعجبنى فى هذا العمل أنه بهائى طاهرى إلى درجة كبيرة، وإذا استطاع الإنسان أن يكون نفسه الحقيقية تماماً فى أى عمل يزاوله فإنه بهذه الاستطاعة يكون قد وصل إلى مرتبة الفن، وأصبح كل ما يلمسه ويكتبه - كالأسطورة الإغريقية المشهورة - ذهباً فنياً».

فيما قال الدكتور محمد أبو الغار: « بدأ إعجابى بأعماله الأدبية ثم التقينا فى منازل بعض الأصدقاء وبعد ذلك بدأ نادى الكتاب فى بيتنا الذى بدأ فى نهاية التسعينيات وكان بهاء أحد الأعمدة الأساسية فيه والذى استمر مرة شهريا لمدة 11 عاما بانتظام شديد، بهاء طوال هذه السنوات والتى ناقشنا فيها تقريبًا جميع أعماله وكان شديد الديمقراطية فى تقبله النقد».

وأضاف: «كان مثقفا واسع المعرفة حديثه ممتع وتعرفنا عائليًا على السيدة زوجته، وفى مرحلة لاحقة تعرفت على بناته. آخر مقابلة معه بعد ان اعتزل الناس كانت بناء على  اقتراح من الأستاذ عبدالله السناوى وتقابلنا مجموعة صغيرة عند الأستاذ بهاء فى منزله.بهاء كان إنسانا جميلًا محترمًا أحبه الجميع وقدره الشعب المصرى بأجمعه.. لروحكً السلام يا عزيزى بهاء.

رحلته  السيرة فى المنفى

عدد كبير من الكتاب عاصر بهاء طاهر فى بداياته بإذاعة البرنامج الثانى الذى كان من مؤسسيه والذى استمر من 1968 وحتى عام 1975 حيث جاء الأديب الكبير يوسف السباعى  وزيراً للثقافة فى السبعينيات ورفع شعار «تطهير الإذاعة من الشيوعيين» ولم يجدوا غير بهاء طاهر الذى سرد فى كتابه «السيرة فى المنفى» تفاصيل ما جرى: «أُبلغت أنى الوحيد الذى أُهدر دمه فى الإذاعة، توقفت طويلاً، تأملت هذا الاستنفار العدائى تجاهى بدهشة، لم أكن أعرف أنى شيوعى إلا عن طريق هذا القرار.. كان يمكن أن يصبح الأمر مجرد قرار عليّ تقبله لو أنى شيوعى بالفعل.. ولكنى سألت نفسي: هل أنا شيوعي؟ ثم قلت لنفسى: لعلهم يعرفوننى أكثر مما أعرف نفسى!».

بعدها غادر بهاء طاهر مصر إلى جنيف وعندما سئل طاهر فى حوار  سابق له مع أحد الصحف لماذا خرجت من مصر وكيف عدت إليها؟ فأجاب قائلاً: «أنا خرجت من مصر بعدما مُنِعْتُ من الكتابة عام 1975 فى عهد الرئيس الراحل محمد أنور السادات، مما اضطرنى لمغادرة البلاد، باعتبارى شخصا غير مرغوب فيه من النظام الحاكم وقتها، وعندما قررت العودة إلى مصر فى عام 1995، لم يكن هذا بطلب أو إيعاز من السلطة، وإنما بطلب من قرائي، خاصة بعدما بلغت سن التقاعد وأنهيت عملى كمترجم فى المقر الأوروبى للأمم المتحدة فى جنيف، والذى استمر 15 عاماً».

وأضاف: «بالنسبة لى فقد أقمت خارج مصر أكثر من 20 عاما، قضيت منها 15 عاما بجنيف فى سويسرا، وقد كانت تجربة مفيدة جدًا لى ككاتب وأديب، لأن إقامتى فى العالم الغربى، وتحديدا فى سويسرا، لم تكن كسائح أو رحلة عابرة، وإنما كإنسان مقيم، عايشت هذا المجتمع، حتى صرتُ جزءًا منه، ومن ثم استطعت أن أكتب عنه بدرجة عالية من الأمانة والموضوعية». 

وتابع طاهر قائلاً: «وقد لاحظ المتابعون، أن الكتابات التى كتبتها عن الغرب، لم يكن فيها هذا الانسحاق أو الانبهار بالتجربة الغربية، وأيضا لم يكن فيها أى نوع من الاستعلاء على التجربة الغربية، وإنما تجربة إنسان عاش حياة عادية فى مجتمع رأى من خلاله ما له وما عليه، وعبر عن ذلك بصدق وأمانة فى كتاباته».

وفى عام 1984م ظهرت مجموعته القصصية الثانية تحت عنوان «بالأمس حلمت بك»، والتى تتحدث عن إنسان مُغترب - كحال الكاتب - يعيش حياة الموظف بعد أن انقطعت صلته عن وطنه وأهله منذ فترة طويلة، ويعيش ما يعيشه العرب فى الخارج من مواجهة للعنصرية اتجاه الأجانب، ومواجهة الإحساس بالوحدة والغُربة، والإحساس بالرفض، وعلاقته بتلك الفتاة الغربية التى التقى بها وأحبها وتُدعى «آن مارى».

وعن تجربته فى الزواج من سيدة سويسرية؛ قال «طاهر»: أنا متزوج من سيدة سويسرية، وزواجى منها ناجح جدًا، بكل المقاييس والحمد لله، وربما يرجع هذا إلى أننى عرفتها جيدا قبل الزواج، وبالطبع ازدادت معرفتى بها بعد الزواج، فتفاهمنا جيدًا»؛ مستدركا بأنه «ليست هناك قاعدة عامة يمكن القياس عليها، سلبا أو إيجابا، فيما يخص زواج الشباب العربى أو المصرى المهاجر من أجنبيات، فكل حالة لها ظروفها الخاصة».