الثلاثاء 23 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

كوميديا مضمونة المفعول وعودة للقطاع الخاص من رحيق زمنه الأصيل

أنستونا

شهد القطاع الخاص خلال السنوات القليلة الماضية محاولات للعودة بدت جميعها على خوف واستحياء، خوف من الخسارة واستحياء من خوض تلك التجارب سيئة السمعة لما كان يجنيه القطاع الخاص فى بعض تجاربه بزمن مضى من أعمال مسرحية تحمل نوعا ركيكا من الكوميديا، بينما وفى نفس هذا الزمن كان لمسرح القطاع الخاص قوته وحضوره وعنفوانه، قدم تجارب مسرحية شديدة التنوع والثراء الفنى بنجومه الكبار، يعود اليوم فى بطء شديد وبمحاولات يتحسس فيها المنتج السوق بقياس مدى تقبل واقبال الجماهير لتلك التجارب نادرة الوجود، وبجرأة وشجاعة وإقدام قرر المنتج محمد أحمد السبكى خوض تجربة جديدة تماما على مؤسسته الإنتاجية، فمن المعروف أن مجموعة السبكى تهتم بصناعة السينما فى المقام الأول لكنه قرر الإقدام على صناعة تجربة مسرحية!



فى «أنستونا» لعب المنتج والمخرج المسرحى الكبير خالد جلال مع المؤلفين الشباب كريم سامى «كيمز» وأحمد عبد الوهاب على تقديم خلطة مسرحية وكوميديا مضمونة المفعول، فى عمل غنائى استعراضى مع نجمة تتقن هذه الفنون جميعا بمهارة واقتدار، وبالتالى ضمن السبكى وصناع العمل أول عنصر من عناصر النجاح حضور دنيا سمير غانم الطاغى فهى نجمة صاحبة كاريزما عالية، فأحسن صناع العمل استغلال هذا الحضور بكتابة مسرحية وغنائية عادت بنا إلى زمن الكوميديا والمسرح الرفيع.

كان كريم سامى ومعه أحمد عبد الوهاب على وعى كبير بشكل العصر اللذان قررا صناعة عمل كوميدى ضخم فيه، تدور أحداث المسرحية حول مايسترو كبير يتورط فى شراء مسرح قديم، يعود تاريخه لمطربة كبيرة من ثلاثينات القرن الماضى، يكتشف هذا المايسترو أن المسرح مازالت تسكنه روح هذه المطربة الشهيرة فى زمنها كاميليا، يظهر له شبحها، وتشترط عليه أن يأتى بحفيدتها «زلابية» فهى الوحيدة التى ستسمح لها بالوقوف على خشبة هذا المسرح، تعيش زلابية فى حى السكاكيني، هى مطربة شعبية فى المقام الأول لا تقدم سوى أغانى المهرجانات مع فرقتها من نفس الحى الشعبي، ويلقى على عاتق هذا المايسترو وفريق عمله مسئولية تحويل هذه الفتاة الموهوبة إلى مطربة حقيقية دارسة لأنواع الموسيقى وفنون الغناء، يبذل جهدا فى تعليمها وتحويلها من مطربة عشوائية الموهبة إلى مطربة واعية بفن الغناء والموسيقى!

تمثل أغانى المهرجانات اليوم جزءا أصيلا من ثقافة الحارة الشعبية وينبذها بالطبع طبقات المثقفين، ويعتبرها أهل الفن والموسيقى نوعا متطفلا على الغناء والموسيقى لا يحمل معنى أو فنا يذكر، هذه الحرب القائمة والمستمرة بين المزاج الشعبى فى عشق أغانى المهرجانات، والتى أصبحت السمة الأساسية لحفلات الرقص والأفراح ثم الذوق الرفيع والمزاج الراقى فى الاستماع إلى موسيقى مبنية على لحن وكلمات واضحة المعانى تخاطب الوجدان، نسج المؤلفان الشباب كوميديا تتضمن هذا الصراع الثقافى الطبقى بين الموسيقى الشعبية سريعة الإيقاع ومدغدغة الكلمات والمعانى الشبيهة بإيقاع الحياة اللاهث، وبين مايسترو كبير دارس للموسيقى لا يتفق مع هذا النوع من الفن الهابط، أحيانا قد لا يضمن عادة صناع العروض الكوميدية الفوز بضحك الجمهور، بسبب حدوث تفاوت فى مزاج الجماهير بالضحك، بمعنى آخر كما تغيرت الأمزجة وتبدل الإيقاع الزمنى بتبدل شكل الألحان والغناء فى شكل اغانى المهرجانات تبدلت ايضا أذواق الجماهير فى الضحك، فما يضحك ويثير البهجة لدى شباب اليوم، قد لا يستفز الأكبر سنا من جيل سابق، فقد يعجب البعض بالمسرحيات السريعة صاحبة الإفيهات اللفظية وآخرون يرون أنها كوميديا غير مثيرة للضحك، بينما فى «أنستونا» ضمن المؤلفان والمخرج الفوز بضحك الجماهير طوال أيام عرضها، تهتز قاعة المسرح بأصوات ضحك الجمهور على مدار ساعتين كاملتين لا يتوقف الضحك المنسوج بحرفة ترزى ماهر أجاد غزل ثوب مطرز بتفاصيل أنواع من الأقمشة الزاهية، التحم الضحك المبنى على صناعة مواقف كوميدية كاملة مع دراما ورسالة مسرحية، عمل مكتمل الأركان لا يعتمد على مهارة الكوميديان فى القاء افيهات لفظية أو مجرد خفة دمه فى اضحاك الجماهير، بينما قدم كوميديا صنعها أصحابها بذكاء ووعى بإيقاع العصر وشكل الصراع الحالى الذى نعيش فيه صراع اختلاف الأمزجة، كما حمل رسالة لأصحاب الفن الموسيقى الرصين بضرورة استيعاب ما آل إليه حال الثقافة الشعبية ومحاولة مساعدتهم على فهم وتطوير ما اخترعوه من فن شعبى يناسب شكل حياتهم الاجتماعية الحالية.

متعة كبيرة حققها وابدعها المخرج المسرحى خالد جلال فى عرض مسرحى موسيقى استعراضى ضخم، مع مؤلف الأغانى ايمن بهجت قمر الذى ابتدع كعادته كلمات أغانى العمل بما يتناسب مع كل استعراض وكل موقف تقدمه الفنانة دنيا سمير غانم، لم تتوقف المهارة والاتقان الكبير عند حدود التأليف الدرامى والموسيقى للملحن عمرو مصطفى بينما امتد هذا الاتقان لجميع المشاركين فى صناعة هذا العمل بكل عناصره الفنية من تصميم ملابس شديدة الروعة والإبهار والملائمة للشكل المسرحى لمشاهد العرض بالكامل للمصممة مروة عودة، وكذلك تصميم الاستعراضات للمصممة خديجة العرقان التى قدمت فقرات استعراضية تحمل مفردات حركية جديدة شديدة الرقى والإبهار وساهمت بشكل كبير فى إخراج العمل فى صورة مسرحية راقية التحم الاستعراض بالدراما فى مشاهده المتفرقة ليخرجه فى صورة جمعت بين البهجة ووقار عرض استعراضى ضخم.

فى هذا العمل المسرحى الاستثنائى بمجال القطاع الخاص، الذى اجتمعت فيه عناصر النجاح، تقتحم دنيا سمير غانم عالم النجمة متعددة المواهب التى تستحق المزيد من الاستثمار فيها بأعمال أخرى متجددة، تفصح دنيا عن مواهبها الكثيرة المتقنة فى كل عنصر لعبته بهذا العمل المسرحى، سواء كممثلة كوميدية لعبت أنماط مختلفة فى دور الجدة الراقية ثم الحفيدة السوقية، ثم بهاء حضورها وروعة اتقانها لمشاهد الاستعراض، وكأنها فنانة استعراضية بالمقام الأول وبالطبع غنائها المتواصل طوال العرض، هنا نحن أمام نجمة تستحق كل التقدير والاحترام والاستغلال الفنى وكأن شريهان ونيللى وشويكار اجتمعن فى صورة واحدة فى هيئة دنيا سمير غانم، يأتى النجم بيومى فؤاد بحضوره الكوميدى وخفة دمه الدائمة وحب الجماهير له لتتزن مشاهد العرض بالكوميديا ويتفجر الضحك بينه وبين دنيا ثم يأتى على التوازى لتكتمل الحالة المبهجة وصنعة الكوميديا المغزولة بحكمة وحساب، وذكاء تتجسد هذه الحرفة فى مشاهد العرض المتفرقة بنجومه الذين قدموا أنماطا متنوعة من الكوميديا داخل هذه الحارة الشعبية، بدءا من النجم سامى مغاورى فى دور الأب الذى يعيش من وراء ابنته المطربة الشعبية، ثم خطيبها كريم عفيفى وصلاح الدالى الذى يعد اكتشافا كبيرا ككوميديان بهذا العمل كان له حضور مهم على مدار العرض مع المتمرس كريم عفيفى، وكذلك مريم السكرى وبسنت صيام على اختلاف انماط ما قدمتهما من كوميديا الأولى زوجة الأب من الحارة الشعبية والثانية مديرة اعمال المايسترو المتعجرفة الرافضة لأهل هذا المكان العشوائى ثم عمرو عبدالعزيز فى دور مدير أعمال المايسترو وخالد إبراهيم فى دور المعلم صاحب المسرح، لم يكتف كريم سامى «كيمز» وأحمد عبد الوهاب باستعراض مواهبهما فى الكتابة فقط بل كانا لهما حضور فى العرض ككوميديانات من طراز آخر ونوع مختلف قدم الأول دور معلم اللغة العربية للفتاة «زلابية»، والثانى المايسترو الذى جاء لتعليمها أساليب الغناء والموسيقى اتقن الاثنان دوريهما كما اتقنا لعب الكوميديا على الورق، فهذا العمل يبشر بولادة مؤلفين وممثلين من طراز رفيع وعودة لمسرح القطاع الخاص فى رونقه ورحيق زمنه الأصيل، «أنستونا» ديكور وإضاءة عمرو عبدالله، إخراج خالد جلال أشعار أيمن بهجت قمر وألحان عمرو مصطفى.