
د.داليا المتبولى
لحظة لانكسار الصمت.. العدالة فى وجه الجريمة
فى وطنٍ يعبق ترابه بتاريخٍ عريق وحضارةٍ لا تُنسى، خرج صوت طفل صغير من بين طيات الزمن، يحمل فى عينيه أحلامَ المستقبل وأسئلةً تنتظر الإجابة. اسمه ياسين، ورغم صغر سنه، إلا أنه كان يحمل فى صوته صدى للأجيال التى سبقته، وللآمال التى تعيش فى قلب هذا الوطن».
فى مدرسة، كان من المفترض أن تُحرس فيها الأرواح قبل الأجساد، وقعت الجريمة. لا نملك من اللغة ما يُغنى عن كلمة «اغتصاب»، ولا من الحروف ما يغسل قبحها. لكننا نملك الوجع، والوجع فى مصر لا يُسكِت، بل يُفجّر الحقيقة. جريمة فى حق الطفولة، فى حق النور الذى يُولد مع كل طفل. والفاعل؟ ذئب اختبأ فى هيئة بشر، وسُمح له أن يكون قريبًا من الملائكة.
وقف ياسين فى المحكمة، لا مرتجفًا ولا صامتًا، بل مرتديًا زى «سبايدر مان»، وكأنما أراد أن يقول لنا: «أنا أبحث عن بطلٍ ينقذنى»، لم يكن الرداء عبثًا ولا لهوًا طفوليًا، بل كان رسالة موجعة: أن الطفل الذى انكسرت بداخله الثقة يحاول أن يُرمّمها بخيط من الخيال، أن يبحث عن انتقامه فى الأساطير لأن واقعه خذله. تلك اللحظة لم تكن مشهدًا عابرًا فى قاعة عدل، بل كانت واحدة من أكثر مشاهد هذا البلد صدقًا. لأن العدالة، حين تتأخر، تتحول إلى حلم يُرتدى، ولا شيء أقسى من حلمٍ يرتديه طفل كى ينسى كابوسًا لم يصنعه.
لكننا، كشعب، نعرف جيدًا كيف نحزن. نحزن بكرامة، ونبكى دون أن نتحول إلى فتات. نعرف كيف نطلب العدالة، لا الانتقام. ولهذا، حين تحرّكت الدولة بسرعةٍ وصرامة، شعر الناس أن شيئًا من التوازن قد عاد. لأن العدل فى هذا البلد ليس ترفًا، بل ضرورة وجود، وركنٌ من أركان الوطن الذى لا يعيش إلا إذا صان أبناءه.
هذا الوطن، الذى انكسر حين انكسر ياسين، استعاد شيئًا من قوّته حين انتفض لأجله. لأن كرامة الطفل من كرامته، وبراءة الصغار لا تُداس تحت أقدام الوحوش. ولهذا كانت يد العدالة هذه المرة واضحة وسريعة، كما لو أن مصر بأكملها قالت لياسين: «لن نترك حقك يضيع، ولن نسمح للذئاب أن تظل بيننا».
لكن وسط هذا النور، تسلّلت همسات خبيثة من الظلام، حاولت أن تصبغ الجرح بلون طائفي، أن تزرع الفتنة فى رحم الحزن، وأن تجعل من الألم منصة للكراهية. أرادوا أن يُشعلوا النار فى بيتٍ واحد اسمه مصر.
ونسوا، أو تناسوا، أن المصرى حين يبكي، لا يسأل عن ديانة الدمع. أن الوجع لا يعرف فرقًا بين مسجد وكنيسة. أن الطفل حين يُظلم، لا يُظلم كمسلم أو مسيحي، بل كمصري. وأن الديانة الحقيقية التى توحّد هذا الشعب منذ آلاف السنين، هى «الوطنية».
مصر التى صلّت على الشهداء فى الميدان دون أن تسأل عن أسمائهم، لا تفتنها أوهام الحاقدين.. المصريون الذين يفتحون بيوتهم لأعياد بعضهم، لا يساومون على وحدتهم. لأن مصر لا تُقاس بعدد الصلوات، بل بصدق القلوب. هذه الجريمة، مثلها مثل أى جريمة، لا يُمكن ربطها بدين أو طائفة. المجرم لا يُصلّي، والذئب لا يعرف الله، والعدالة لا تُقسم على أساس الهوية، بل تُبنى على الحق.
يا من تحاولون تفتيت الوطن على جراح طفل، اعلموا أن مصر لا تُخدع. قد تحزن، لكنها لا تُفتن. قد تصرخ، لكنها لا تُمزّق. قد تنزف، لكنها تداوى جراحها بحكمة أم، لا بهذيان مغرض. مصر ليست دولة تُهدَّد من الداخل، بل وطنٌ يتجدّد من جرحه، ويزداد صلابة كلما حاول عدو أن ينكأه.
قضية ياسين ليست فقط قضية عدالة جنائية، بل قضية ضمير وطني. امتحان أخلاقى لكل فرد فى هذا البلد. هل سنحمى أبناءنا؟ هل سنعيد بناء الثقة فى المؤسسات التعليمية؟ هل سنطرد الذئاب من مدارسنا؟ وهل سنفهم أن الطفولة ليست فقط مرحلة عمرية، بل روح وطنٍ بأكمله؟
الطفل الذى ارتدى زى «سبايدر مان» لم يكن يرتدى قناع قوة، بل قناع حاجة. لم يكن بطلًا خارقًا، بل كان يطلب من هذا المجتمع أن يكون بطله الحقيقي. كان يقول: “أنقذوني، لا من المجرم فقط، بل من الخوف الذى يسكنني، من العار الذى لا أفهمه، ومن الصمت الذى يُخيفنى أكثر من الصراخ».
والمجتمع، إن لم يسمعه، فقد خان مهمته. إن لم يحمه، فقد فقدَ جوهره. لا يكفى أن نغضب ليوم، ثم ننسى، لا يكفى أن نُدين، ثم نُصالح، لا يكفى أن ننشر صوره، ثم نواصل الحياة كأن شيئًا لم يكن. يجب أن نُغيّر. يجب أن نُحصّن المدارس، نُحاسب المقصّرين، نُراقب، نُعلّم أبناءنا، ونعيد بناء الثقة التى كُسرت.
فى هذه القضية، كلنا ياسين. كلنا وُلدنا فى هذا الوطن نطلب الأمان، ونحلم بحضن لا يغدر، وشارع لا يعتدي، ومدرسة لا تُؤذي. وكلنا مسئولون عن حماية مَن لم يبلغوا بعد سنّ الدفاع عن أنفسهم.
وإذا كان المجرم سيُحاسب، فليكن الحساب رادعًا، لا انتقامًا. وليكن الحكمُ رسالة لكل من تسوّل له نفسه أن يقترب من براءة طفل. وليكن المجتمع على قدر هذا التحدي، فيُربي، ويُعلّم، ويُراقب، ويكسر دائرة السكوت التى جعلت بعض الذئاب تمشى بيننا فى ثياب البشر.
دعوا ياسين يرتدى ما يشاء، دعوه يحلم، دعوه يصدّق أن هناك من يحميه. أما أنتم، فاصنعوا من أنفسكم الأبطال الذين يحتاجهم، لا الأبطال الورقيين الذين لا يخرجون من الشاشات. ولتكن الوطنية هنا هى الدين الوحيد. لا دين لما جرى، ولا هوية للمجرم سوى أنه عدوٌ لكل ما فى هذا البلد من إنسانية.
إن مصر، وهى تداوى جراح هذا الطفل، تداوى روحها. وإن ياسين، حين يرتدى زى الأبطال، يُذكّرنا بأن هذا الوطن باقٍ، عصىٌّ على الحقد، أقوى من الجريمة، وأبقى من كل حاقدٍ وناقم، فاحفظوا هذه الروح، وكونوا لها طوق النجاة.