«أنت تشرق أنت تضىء».. جماليات المغامرة والبحث عن ألغاز الحضارة المصرية القديمة
تمثل رواية أنت تشرق أنت تضيء للروائية المصرية رشا عدلى الصادرة مؤخرا 2022 عن دار الشروق تجربة روائية مهمة وحافلة بالجماليات ويمثل خطابها شكلا مختلفا من توظيفات السرد الروائى لأن يكون مغامرة بحثية تطارد لغزا أو مجموعة من الألغاز وتسعى لكشفها، وهو نمط روائى مهم لكونه يعتمد على إنتاج أكبر قدر من الطاقات التشويقية والبواعث الاستكشافية لدى المتلقى الذى يصبح فى أعلى درجات الاندماج فى هذا العالم الروائى بأسراره وأسئلته الكثيرة والكثيفة والمهمة، كما أنها بجانب هذه الطاقات التشويقية الكثيرة تمنح المتلقى فوائد معرفية وطاقات معلوماتية مهمة تزيد من أهمية هذه الرواية بشكل خاص وتكشف عن الأدوار المهمة للفن الروائى بشكل عام فى إثراء الحالة الثقافية وتحريض القراء والمتلقين على القراءة ومتابعة البحث والاستكشاف والعودة إلى التاريخ بأسراره وغموضه.
يتراكب خطاب الرواية من عصرين أو زمنين أو حكايتين بينهما تباعد زمنى كبير؛ إحداهما فى القرن الأول بعد الميلاد فى العصر الرومانى فى مصر، والحكاية الثانية فى العصر الحديث من منتصف السبعينيات وحتى الوقت الراهن، والحقيقة أن هذا التراكب والدمج بين العالمين قد يكون هو أهم أسرار هذه الخلطة الروائية الحافلة بالتشويق والجماليات والغموض، فالماضى فى ذاته قد لا يكون بالتقعيد والغموض ذاته إذ نظر له من منظور داخلى يخصه هو فقط، أى الماضى بالنسبة للماضى قد يكون مهما ومشوقا، ولكنه حين يقاس بالنسبة إلى الحاضر أو تتم رؤيته من منظور الراهن هنا يكتسب كامل غموضه وكامل أسراره ويتمتع بكل طاقاته التى تثير الأسئلة وتجعله مهما، ولهذا فإن ضم الحكايتين إلى بعضهما هو بذاته جوهر الجمال الأدبى فى خطاب الرواية، وربما هذا هو النسق الفنى الثابت فى الروايات التاريخية، فمن الأفضل والأكثر جمالا أن تكون هناك قصة راهنة أو حديثة يتم من خلالها أو عبرها النفوذ أو المرور أو العبور نحو القصة التاريخية القديمة، ولعل كتابنا الأكثر خبرة يتنبهوا إلى هذا التكنيك الذى اهتدى إليه الكتاب الأكثر براعة منهم، ممن يعتمدون هذه المطابقة بين الأزمان أو العصور المختلفة، فلا نرى ذلك رواية أحادية الزمن أو تبدو محصورة فى أسوار الزمن الماضى وقيود التاريخ فقط، ولعل هذا مثلا ما يفعله أدباء مصريون كثيرون ويكاد يكون نسقا بنائيا مستقرا وثابتا عند كتاب الطبقة الأولى من الروائيين البارعين، فنجده لدى ريم بسيونى مثلا فى روايتها القطائع عبر شخصية الموظف الباحث عن الآثار فى عصر الملك فاروق الذى يحاول أن يصل إلى لغز المدينة القديمة ويصل إلى المخطوط ويكون أول من يقرأه.
وهذا التكنيك أو الاستراتيجية السردية التى تتبعها رشا عدلى فى روايتها التى نحن بصدد مقاربتها (أنت تشرق.. أنت تضيء) هى مركز الجمال وبؤرته ليس لكونها منحتنا حكايتين لهما اتصال أو بينهما ارتباط وإسقاط فقط، ولكن لكونها تقيس وعيا على وعى آخر، تقيس وعى الماضى على وعى الراهن، ففى وعى رنيم الشابة الأثرية الثلاثينية وإحساسها وخبرتها ومشاعرها نحاول أن نستوعب تاريخ شخصية سيرينا الشابة المصرية الإغريقية التى تزوجت نائب الإمبراطور الرومانى ولكنها ثارت عليه أو انضمت للثوار فى مدينة الإسكندرية وغلبت إيمانها بمصريتها على زواجها من الحاكم الرومانى الذى كان يبطش بأهل المدينة ويفرض عليه الضرائب القاسية وكان دمويا عنيفا إلى أقصى درجة دون استيعاب أو فهم لتزاوج حضارتى المصريين القدماء والإغريق فى مدينة الإسكندرية وغيرها من المدن المصرية التى يحكمها وميراث هذا التزاوج من المعرفة والتدين والعلم والحضارة والفن.
هذا الدمج غير المباشر بين الماضى والحاضر هو ما يمنح الماضى قيمة مضاعفة، فلا نكون أمام مجرد حكاية تاريخية قديمة عن ثورة المصريين على الرومان أو عن قدر ما وقع لهم من الظلم أو ما لاقوا من القسوة والعنف، بل نكون أمام عالمين مختلفين ينفتحان على بعضهما أو بينهما نوافذ فيستطيع اللاحق رؤية الماضى والإحساس به واستيعاب قصته فى إطار قصص النضال الوطنى المتجدد أو يستطيع الماضى بقوة الفن وخلوده وعجائبيته أن ينفذ إلى الحاضر ويمتد بأسراره ولا يموت.
فى هذه الرواية الثرية يعيش المتلقى حالا من المطاردة المشوقة للحقيقة، والسعى وراء كشفها، وإدراك ألغازها، فسر هذه اللوحة المقسومة إلى نصفين من بورتريهات وجوه الفيوم تكون إحدى هذه النوافذ التى تحاول أن تنظر منها رنيم الباحثة فى الفن والآثار وتتلصص على الماضى وتعرف غموضه، فنكون أمام حال من القتل أو جريمة تاريخية قديمة تكتسب قيمتها ليس فقط بالنسبة لأبعادها التاريخية ولكن كذلك بالنسبة لأهميتها للوعى الراهن لدى الراغبين فى كشف هذا السر ومعرفة أسباب القتل وكيفيته أو دوافعه ومصير هذه المجموعة من الثوار المصريين الذين تخلص منهم نائب الإمبراطور، وهذا الوعى الراهن هو بالتحديد ما يتماهى معه المتلقى لأنه معادل ومواز له زمنيا وثقافيا، فالقارئ مشارك لرنيم الباحثة فى الآثار فى محددات العصر الحديث وثقافته وأدواته العلمية وطرق كشفه عن أسرار المومياوات أو الآثار الفنية القديمة، وهكذا فإن كشف اللغز يمثل انتصارا ليس لرنيم فقط ولكن للقارئ كذلك الذى يشعر أنه شريك معها فى رحلة البحث وشريك لها فى أبعاد عصرها ومحدداته الثقافية والمعرفية وهو اعتبار فنى مهم وله أثره الجمالى الحتمى الذى قد يغفل عنه بعض النقد الروائى أحيانا.
فى الرواية طاقات بحثية مهمة معرفيا وجماليا حول تحقيق لغز هذا القتل بمادة معينة وكذلك حول سر الشخصية صاحبة الصورة المقسومة واختلاف الرسم بين نمطين من الرسم واختلاف فى المواد كما الاختلاف بين موقعى الكشف الأثرى بين الفيوم فى هوارة وبين الإسكندرية، وهى كلها أسئلة مهما تجعل الرواية ذات طابع بوليسى نسبيا وهو ما يدعم المحفزات القرائية ويجعل المتلقى متفاعلا بنمط تصاعدى مع هذه الألغاز التى يتحرك السرد نحو فكها أو كشفها، ولم تكن الألغاز مقصورة على الحكاية التاريخية أو قصة سيرينا المرأة المصرية الإغريقية الجميلة وحكايتها مع نائب الإمبراطور وهى قصة حافلة بالأسرار والحركة والتشويق وقدر كبير من العنف التاريخى والوحشى والمشاهد ذات الوصف السينمائى المشوق واللافت للانتباه والمهين على مشاعر المتلقى مثل إجبارها على معاينة إعدام أبيها بطريقة وحشية ومختلفة خاصة بالعصر الرومانى وحكامه الأباطرة المتعالين على المصريين القدماء فى حين أن المصريين القدماء والإغريق كانوا يقتنعون تماما ببربرية الرومان وهمجيتهم، إلى آخر تفاصيل هذه الحكاية التاريخية وما فيها من التآمر والتدبير وجرائم القتل والكراهية، ولكن الحكاية العصرية أو الحديثة مثلت هى الأخرى حالة إنسانية ثرية وفيها كثير من التوتر والتشويق ورحلة البحث عن الذات وتحقيقها عبر العلم والعمل وتجاوز الفقر أو عبر الحب أو على الأقل مقاومة حالة الضبابية فى الحب وتحقيق الاستبصار العاطفى وكذلك تحقيق الذات عبر الانتقام للأب من غريمه رجل الأعمال الفاسد الذى يمثل رمزا للفساد الذى بدأ من منتصف السبعينيات عبر تشكيل طبقة من الرأسماليين الذين ربطتهم علاقات بالجماعات الإسلامية وامتدوا فى المجتمع وكانوا يستحلون أموال الآثار المصرية ويبيعونها أو يعلمون على تهريبها للخارج، ويمثل سقوطهم فى الوقت الراهن عبر تعاون مع أجهزة الدولة دليلا على أن الحقبة الحالية هى عصر سقوط الفساد وعصر الأمل فى مقاومته أو اجتثاثه وإعادة الحق لأصحابه من المخلصين الوطنيين الذين لم يجدوا معينا فى عصور سابقة.
وتطرح الرواية طاقات جمالية معرفية مهمة ذات طبيعة متخصصة علميا Discipline ترتبط بالبحث فى الآثار والكشف عن أسرارها وخاماتها وموادها وأسرار هذه الخامات والمواد من الخشب والألوان والحقيقة أنه جزء مهم جدا وممتع ويمثل قيمة إضافية فى الرواية ويمثل مجالا مناسبا للمقاربة السيميولوجية لأن كل إشارة أو كل علامة أو كل لون أو كل مادة تصبح دليلا على لغز أو سر فى هذه اللوحة وفى حياتها أو تمثل قيمة معرفية حول الحضارة المصرية القديمة فى ذلك الزمن وعن معتقداته فى الدفن والتحنيط والرسم وموادهما والطبقات الاجتماعية والطبيعة والزروع التى كانت قائمة فى ذلك الزمن فى مصر فى القرن الأول بعد الميلاد، وهو ما يجعل الرواية فى مجملها مغامرة سردية ممتعة ومفيدة وحافلة بالجمال والتشويق.
كما فى الرواية كذلك نوع مختلف من الترويج للسياحة والآثار والحضارة المصرية القديمة عبر الخطاب الروائى وهو ما يمثل تداخلا ثقافيا مهما إذ يصبح الخطاب الروائى بشكل مباشر مفيدا فى حقل آخر.