الجمعة 19 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

فى ذكرى رحيله الثامنة

إدوار الخراط كشف خبايا المجتمع من خلال رؤيته الذاتية

تمر هذه الأيام الذكرى الثامنة لرحيل الروائى والقاص والشاعر والمترجم والفنان التشكيلى إدوار الخراط الذى عاش فترة طفولة شديدة الحيوية، حيث كانت بؤرة نابضة ومتوهجة ألقت بجذوة مستمرة فى أعماله القصصية والروائية من حيث الواقع كانت طفولة إسكندرانية صعيدية فى وقت واحد، فقد جاء والده من المدينة العريقة «أخميم» فى صعيد مصر، واستقر به المقام فى الإسكندرية. كان الخراط يلقى قصائد الشعر العربى الجاهلى والعباسى على مسمع شقيقاته البنات - وهو فى سن العاشرة أو الحادية عشرة- فيترقرق الدمع فى أعينهن..



 

 حكايات جدته هيلانه وخالته نورة وماتيلده، على سطح بيتهم فى غيط العنب بالإسكندرية،فى الليالى المقمرة.. وقصص والده أمام «كنكة» القهوة على «السَّبرتاية» – موقد بالكحول- فى فسحة المنزل.. صداقته مع رفيق الطفولة» زكى» حيث قدما طقوس مسرحية بدائية على غرار المتبع فى الأراجوز أو السيرك فى تلك الفترة.. كل هذه الوقائع شكلت لديه الوعى الأول للحكاية. بمجرد أن تعلم القراءة – فى سن السابعة أو الثامنة- عرف كتبًا قليلة كان مقفلا عليها فى خزانة صغيرة، فتحها بعد لأى، وقرأ «كليلة ودمنة» و«منتخبات من الأدب العربى القديم»، و«الأدب الدينى عند قدماء المصريين» ومجلات مثل» الصرخة»، و«روزاليوسف» وكان يكتفى مشاهدة فن الكاريكاتير فيها.

وفى سن الثانية عشرة قرأ «ألف ليلة وليلة» حيث قال فى شهادة له عنها: «أنضجتنى، منذ فجر اليفاعة الأولى، وسحرتنى وامتزجت بحلمى ودمى وكتابتي» وكانت الليالى تحتل مكانا متميزًا فى مكتبته بطبعاتها المتعددة، وقد استلهمها فى روايته «ترابها زعفران» الذى يعده «ألف ليلة وليلة إسكندرانية». لقد تيقظت حواسه وشطحت به خيالات ما أروعها.كان قد بدأ يقرأ بطريقة منهجية،صفحة بعد صفحة، «مختار الصحاح»، و«التوراة» و«القرآن الكريم».

حصل إدوار الخراط على شهادة التوجيهية من مدرسة العباسية الثانوية عام 1942، بعد أن كان قد ألقى بنفسه كلية فى خضم القراءة التى لم يكد يتوقف نهمه إليها، وبعد أن خاض أيضًا غمارات الكتابة فى التاسعة أو العاشرة تقريبًا من العمر، كتب أشياء طفولية وشيئًا يشبه الشعر فى تلك السن المبكرة، ثم تعلم كتابة الشعر الموزون المقفى، ثم القصائد النثرية والتهويمات الرومانسية، وخطرات المراهق المتحير بين الشعر والفلسفة، ثم ألقى بكل ما كتب فى حركة كأنها رمزية، فى موقد نار صغير تحت شباك المنزل عندما كان بمفرده. وقد وصل إلى نضج مفاجئ فى سن الخامسة عشرة أو بعدها بقليل عندما كتب جزءًا من مجموعته القصصية الأولى» حيطان عالية».

فى أول أيامه بالجامعة وقع الخراط فى حب زميلة له، حبًا عذريًا أفلاطونيًا صامتًا، ثم برئ من هذا الحب لكى يلقى بنفسه فى غمار العمل السياسى الثورى، حصل على إجازة الحقوق من جامعة فاروق الأول سنة 1946، ومع ذلك لم يعمل بالمحاماة يومًا واحدًا، وقد التحق بكلية الحقوق – فقط- لكى يرضى والده الذى كان يتمنى أن يراه وزيرًا على نمط مكرم عبيد باشا، ولكنه - فى واقع الأمر- كان يقضى وقته كله مع أصدقائه فى كلية الآداب على بعد خطوات من كلية الحقوق، فكان يستمع إلى محاضرات يوسف كرم فى الفلسفة،وسليمان حزين فى الجغرافيا، وكانيف فى الأدب الفرنسي، وليدل وان رايت فى الأدب الإنجليزى، ومصطفى العبادى الكبير فى التاريخ، وقرأ مقررات الفلسفة والإنجليزية والفرنسية والجغرافيا والتاريخ من أصدقائه.

يمكن القول بارتياح إن إدوار الخراط قد استكمل مشروعه الأدبى على نحو كامل قبل وفاته بسنوات، فقد نشر القصة والرواية والترجمة والشعر ورسم لوحات فنية كما كتب فى النقد الأدبى كتبًا ذات قيمة تدوم منفعتها إلى اليوم، كما كتب سيرته فى جزأين، كل ذلك قبلما يُصاب بمرض «النسيان»، ويصبح وجوده (أدبيًا) مثل لا وجوده، تغمده الله بالرحمة والغفران.

يعدّ الخراط أبرز من كتب على يسار الرائد الكبير نجيب محفوظ، فلم تكن الحكاية هى شاغله الرئيس، بل كيف تُكتب ولماذا ومتى وأين إلخ، لقد طوّر تيمات الحداثة فى الأدب المصرى بعامة، وأولى اهتمامًا كبيرًا بمناحى اللغة والتصوير المستحدث وتقنيات (الرواية الجديدة) وغيرها من كلّ تقنية كان يراها أو يقرأ عنها، فقد كان واسع الثقافة ويعرف أكثر من لغة، ويستطيع بوعيه المنفتح أن يستفيد من كلّ شىء حوله.

الغريب أننا اليوم لا نرى أبناء لمثل هذه الكتابة، لا أقصد تقليدها، بل تنميتها والتبحّر فى تقنياتها، بل نرى غالبًا (ولا أُعمّم) أنماطًا مسطّحة قشرية من استعمالات اللغة فى النصوص الأدبية، شعرًا أو قصة أو رواية، فهل هى دورة الزمن التى تلعب بتقنيات الأدب، فتعيد وتبدّل وتغيّر بين حين وحين، أم هو الابتذال الذى يحيط بنا فى كلّ شىء، بدءًا من السياسة إلى الاقتصاد إلى الفنّ والأدب، أم أم؟!

وقد تعلم الخراط من سلامة موسى قيم العقلانية والشك المنهجى التى غيرت نسيج حياته الفكرية والروحية وسطوة اللاوعى،وهذا ما دفعه بعد ذلك إلى ارتياد أصقاع الفكر ووضع الأسئلة دون وجل أيا كان موضوع الفكر أو السؤال.

تبرز نغمة البوح الشخصى فى أعمال إدوار الخراط، لأنه نشأ فى بيئة عائلية خاصة، وعاصر تحولات فكرية وحضارية مهمة،فكانت بيئة عائلته تنتمى إلى طبقة أتى منها كثير ممن لعبوا أدوارًا مهمة فى تطور مجتمعاتنا، وهى الطبقة التى عاصرت حقبة الثلاثينيات، وهى بيئة الفئات الوسطى التى اقتربت فى الكثير من الأحيان من الطبقة الكادحة وخاصة عقب الأزمة الاقتصادية التى عصفت بالعالم كله فى ثلاثينيات القرن الماضى.

لم يتردد الخراط مدفوعًا بإيمان شديدبالعدالة،والحيرة، والاستقلال، أن يلقى بنفسه فى غمار الحركة الوطنية المضطربة والمتأججة فى الأربعينيات والخمسينيات، ودخل معتقلات الملك فاروق، وعندما خرج من السجن فوجىء بكارثة حلت بكتبه «حينما دخلت السجن ظن أهلى أن الكتب الموجودة فى المكتبة سبب من أسباب دخولى السجن، وخوفًا من تعرضهم لأى مشاكل أو مضايقات أمنية، قاموا بالتخلص من هذه الكتب». فى معتقلات الملك فاروق تعلم الخراط اللغة الفرنسية، ومن ثم عرف السيريالية والوجودية ومغامرات الرواية الحداثية فى الخمسينيات المبكرة، وفى رسائله إلى والدته التى يحكى فيها أحواله كان لا يطلب شيئًا من الأسرة سوى الكتب ولا شىء آخر،ويبدو اهتمامه بالأدب الروسى واضحًا فى تلك الرسائل وخاصة دستيوفسكى «الذى ترك لدى آثارًا غائرة لدرجة الهلوسة».

اشتغل الخراط بالدروس الخصوصية، وفى مخازن البحرية الإنجليزية، وفى البنك الأهلى وفى شركة التأمين الأهلية فى الإسكندرية، بعد رحيل والده عام 1942، وعمل بالترجمة لزيادة دخله بعد أن أنقذه الكاتب المسرحى «ألفريد فرج» من الضياع والتشرد من خلال مساعدته فى العمل كمترجم بالسفارة الرومانية بالقاهرة» كنت أترجم براءات الاختراع فى الميكانيكا والكيمياء لإحدى الشركات وهذا أثرى قاموسى اللغوى».

انتقل الخراط للإقامة بالقاهرة بشكل دائم عام 1955، واستقر فى ( 45 شارع أحمد حشمت – الزمالك ) والتحق بالعمل فى منظمة التضامن الأفرو آسيوي، وشارك فى تأسيس وإصدار مجلة «لوتس» للأدب الإفريقى الأسيوى باللغات الثلاث: العربية والإنجليزية والفرنسية. وهى مجلة اتحاد الكتاب الإفريقيين الآسيويين، التى انتقلت بعد ذلك إلى بيروت وتونس ثم توقفت عن الإصدار. ومن خلال عمله بمنظمة التضامن الإفريقى الآسيوى تعرف الخراط على شخصيات دولية بقامة: باتريس لومومبا، وأحمد سيكوتورى، وأنديرا غاندى، وأجوستينو نيتو، وأميلكار كابرال، وعشرات من الساسة والكتاب من إفريقيا وآسيا والبلاد الاشتراكية، وهذه الفترة الذهبية – حقبة الستينيات- التى هبت فيها رياح التغيير العارمة على إفريقيا حاملة معها بهجة الاستقلال، ونشوة ظهور الأمم الفتية الجديدة، حيث كان الأفق كأنه لا تحده حدود، وحيث الآمال العريضة، وقد طردت فلول الاستعمار الأخيرة.

وسافر إلى العديد من بلدان العالم وكتب العشرات من الكتب والمقالات والأحاديث والبرامج الخاصة فى «البرنامج الثانى» فى الإذاعة المصرية بالتعاون مع الروائى بهاء طاهر، حيث كان الخراط يترجم ويقوم بهاء بإخراج ما يترجمه الخراط من مسرحيات شهيرة مثل مسرحية «فى الحضيض» لمكسيم جوركى.

كما شارك الخراط فى إصدار مجلة «جاليرى 68» بالتعاون مع أحمد مرسى ردًا على هزيمة يونيو 1967، ومقاومة العدوان ثقافيا، وكانت المجلة رمزًا للحركة الطليعية والمنبر الذى تبلورت حوله إبداعات الحساسية الجديدة فى الأدب المصرى الحديث.

لقد تناولت أعمال الخراط الواقع على نحو خاص منذ فترة مبكرة جدًا، وربما كانت غير مسبوقة إلى هذا التناول،وهو التعامل مع الواقع لا فى الظاهر فقط، لا من حيث رصد الظواهر الخارجية، وما يمكن أن يسمى السطح أو القشرة أو ما يبدو للعين المجردة، من الخارج، وإنما هو التعامل مع الواقع باعتباره لا ينفصل عن الحياة الداخلية والروحية للإنسان، وسقوط الحدود بين الشعر والسرد، وهو ما يبدو واضحًا فى أولى كتاباته» حيطان عالية» التى نشرت فى أواخر الخمسينيات، ولكنها قد كتبت منذ الأربعينيات المبكرة، ونجد فى هذه المجموعة أن المسعى الفنى يهدف إلى كسر الحاجز المتصور الموهوم بين الصحو والحلم، بين الخارج والداخل، بين النفس والمجتمع، بين ما اصطلحنا على تسميته بواقع الحياة اليومية الجارية، حياة السوق والتعامل مع الأشياء، وعالم الفكر والحلم والهواجس الداخلية، بحيث يتكون من هذا كله واقع فنى آخر مواز لواقع موضوعي. عكس الكتابات التى كانت سائدة فى تلك الفترة وتتناول ظواهر الحياة ومشاكلها الاجتماعية فقط.

من يطالع أعمال الخراط يكتشف أنها من أوائل ما اخترق وكسر هذه الحواجز الموهومة وجرؤ على تناول الواقع بجوانبه المتعددة المختلفة والمتنوعة. والاعتقاد فى قدرة العمل الفنى على تغيير الواقع، فبعد الالتزام بالاشتراكية والحلم بالمثل العليا، فالروائى بداخل الخراط يكتفى بكشف خبايا المجتمع من خلال رؤية ذاتية. كما هناك صراع أبدى بين الحلم والواقع،بين المستبدين والمضطهدين، ثم تلك الرحابة فى التشكيل التى تسمعنا صوت الذات التى تُسمعنا صوت الذات مفردة وجمعا. حاضرة أو مشرفة على ماضيها، يحفها التخييل واللغة الدقيقة المفعمة بالصور والاستعارات، وما يتبقى فى النفس كثير. لأن كتابات الخراط على امتداد أكثر من نصف قرن هى بلورة لرؤى تصر على مواجهة قبح وقسوة الواقع بحدس الصوفى وعقلانية المفكر ولغة الشاعر.

كما يعمد الخراط إلى إدماج ذاته بالمواقف والأحداث المسرودة مازجًا بين مرجعية السيرة الذاتية والتخييل، وهو ما يفسح حيزًا للكتابة المنطلقة الملامسة للتأملات والمشاعر الحدسية.

ورواية» رامة والتنين» فقد صدرت عام 1980 وبعد مرور ستة عشر عاما على صدورها تحولت إلى ثلاثية بصدور الجزء الثاني» الزمن الآخر»، والجزء الثالث» يقين العطش»، وتعتبر نمطًا متميزًا فى الكتابة السردية الذاتية،وأدرجت ضمن أفضل مائة رواية عربية.

عمومًا، ستظلّ للخراط غرفة كبيرة فى بيت الرواية العربية، فيها صورة كبيرة لراما والتنين، حولها صور أصغر للزمن الآخر، يا بنات إسكندرية، حجارة بوبيللو، ترابها زعفران، وقد تتبدل الصور تبعًا لكلّ قارئ أو متابع أو ناقد حسب هوى كلّ منهم. هو الساعى إلى الجمال، حيث مزج بين ثنايا فنونه هنرى ميللر مع جيمس جويس مع ساروت وروب جرييه وجنسبرج، جنبًا لجنب الحكايات الشعبية والتراث القبطى إلخ.

مؤلفات إدوار الخراط:

فى القصة القصيرة: حيطان عالية، ساعات الكبرياء، اختناقات العشق والصباح، ترابها زعفران، أمواج الليالى، إسكندريتى «كولاج قصصى».

فى الرواية: رامة والتنين، الزمان الآخر، الغجرية ويوسف المخزنجي، تباريح الوقائع والجنون، محطة السكة الحديد، أضلاع الصحراء، يا بنات إسكندرية، مخلوقات الأشواق الطائرة، حجارة بوبيلو، رقرقة الأحلام الملحية، أبنية متطايرة، حريق الأخيلة، اختراقات الهوى والتهلكة، طريق النسر.

وفى مجال الدراسات النقدية: مختارات من القصة القصيرة فى السبعينيات، عدلى رزق الله «مائيات 86 »، مائيات صغيرة، احمد مرسى.. دراسات ومختارات شعرية، من الصمت إلى التمرد.. دراسات فى الأدب العالمي، الحساسية الجديدة.. مقالات فى الظاهرة القصصية، الكتابة عبر النوعية، ما وراء الواقع.. مقالات فى الظاهرة اللاواقعية.

الترجمات:

الخطاب المفقود.. مسرحية أ.ل. كارجيالى، الحرب والسلام: ليو تولستوى، شهر العسل المر.. قصص إيطالية، الشوارع العارية.. رواية فاسكو براتولينى، ومن المسرحيات الإذاعية: النورس، سوء التفاهم، الحصار.