السبت 20 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

«أوبرا ريجوليتو».. تتجاوز حدود المحلية بمعركة من الغناء الفخم على المسرح الكبير

فى ثلاث ليال متصلة مرت كالحلم القصير،11 و12 و13 من شهر يناير الجارى قدمت رائعة فيردى أوبرا «ريجوليتو» على خشبة المسرح الكبير، احتفالا بمرور 154 عاما على تقديمها خلال افتتاح قناة السويس عام 1869، قدم العرض بقيادة المايسترو محمد سعد باشا والمخرج الشاب حازم رشدى الذى كتب تاريخ ميلاده كمخرج محترف صاحب بصمة وحسا فنيا رفيعا بإخراج هذا العمل الشاق على مستوى الصوت والصورة والأداء الحركى والغناء والتمثيل.



تدور أحداث أوبرا «ريجوليتو» فى ثلاث فصول كتب الليبرتو فرانشيسكو ماريا بيافى بالتعاون مع فيردى، والأوبرا مقتبسة فى الأساس من مسرحية «الملك يلهو» للأديب الفرنسى فيكتور هوجو، وكانت قد واجهت الأوبرا نفس الأزمة التى واجهتها المسرحية عندما قدمها هوجو فى فرنسا عام 1832 حيث حاولت الرقابة منعها من العرض بعد يوم الافتتاح مباشرة، لم يتقبل الجمهور الفرنسى شخصية البطل «مضحك الملك» لأنهم يرونه يحمل مزيجا من القبح الأخلاقى والخلقى، كما لم تتقبل الرقابة عرض قضية فساد الملك وحاشيته، واجهت أوبرا فيردى نفس الأزمة وكادت أن تلقى نفس مصير الإيقاف لولا لوجوئه إلى تغيير بعض الأحداث واسم الأوبرا من «اللعنة» إلى «ريجوليتو».

تدور أحداث الأوبرا حول الدوق المستهتر مانتوا الذى يلقى شباكه على فتاة مجهولة تسكن بيتا متواضعا وتقع فى غرامه وفى نفس الوقت يواعد زوجة الدوق تشبرانو الذى يسخر منه ريجوليتو المهرج الاحدب ثقيل الظل فاضحا إياه، ويدبر أفراد الحاشية مكيدة للمهرج بعد أن وصلتهم اخبار مغامراته العاطفية ويتبعونه الى منزله حيث يلتقى ابنته الخجولة جيلدا التى عزلها عن العالم وأخفى عنها طبيعة عمله ويختطفونها بعد ان أشركوه معهم، وهو يجاريهم ظنا منه أنها خدعة من قبيل الترفيه وحين يرفع العصابة عن عينيه يكتشف أنها ابنته فتصاب الحاشية بالدهشة حين يعرفون الحقيقة ويطلقون سراحها ويقسم ريجوليتو على الانتقام منهم جميعا، فيتفق مع السفاح سبارافوتشيلى على قتل الدوق الذى يرتاد حانته بسبب علاقته بـ مادلينا شقيقته التى تثنيه عن عزمه لإعجابها الشديد بالدوق مع استبداله بأول من يدخل الحانة ولم يكن سوى جيلدا التى ذهبت لهذا المكان لتضحى بنفسها من أجل انقاذ حبيبها مانتوا رغم خيانته لها وتتلقى الطعنة القاتلة بدلًا منه وحين يفتح والدها الجوال يفاجأ بابنته التى تموت بين يديه طالبة منه المغفرة. 

يعد فن الأوبرا نوعا صعبا من المسرح الغنائى الذى لا يعتمد على التمثيل كنعصر أساسى بقدر استعراض أنماط وأشكال وفخامة الأصوات التى تتقاتل للوصول إلى ذروة جودتها الفنية فى بناء المشهد الدرامى بأداء صوتى رفيع، سواء من حيث عنصر نقاء الصوت الذى يصل مع عزف الأوركسترا دون مكبرات «ميكروفونات» معلقة بأفواه المطربين أو من حيث عنصر الجودة الفنية العالية فى استخدام طبقات هذه الأصوات بجلالها وتنويعها وتدرجها حسب الموقف الدرامى الذى تتعرض له البطلة أو البطل على خشبة المسرح، قدمت فرقة أوبرا القاهرة بقيادة مديرتها الدكتورة إيمان مصطفى هذا العمل المعقد والصعب والذى حرصت فيه مصطفى على الدفع بمواهب شابة، فى هذه الأوبرا سوف تقرأ القصة بالكتيب المصاحب للعرض، ثم تدخل قاعة المسرح واضعا الكتيب جانبا وتذهب فى رحلة من التجلى مع الموسيقى وحرب الأصوات الدائرة بعذوبتها وقوتها على خشبة المسرح إلى العالم الخيالى الذى نسجه المؤلف لهذه القصة الدرامية المأساوية، والتى قادها مبدعوها بمقاييس عروض الأوبرا العالمية، تجاوز العرض حدود المحلية باتقان صناعة كل عنصر من عناصره الفنية، ليس هناك مساحة للخطأ أو الخروج عن هذا البنيان المتماسك المرصوص، الجميع يعمل فى وحدة واحدة بدءا من الأوركسترا وقائدها ونهاية بالمطربين المعتلين خشبة المسرح والذى دأب كلا منهم على تقديم عمله بدقة ومهارة واحتراف كبير، يعتمد فن الأوبرا على المبالغة فى التمثيل وبالطبع فى الأداء الصوتى لهذا النوع من الغناء المعقد للغاية، كان المخرج الشاب حازم رشدى على وعى كبير بصعوبة ودقة ما يقدمه من عمل فنى فريد فى نوعه، تساوت مهارة الفنانين فى الحركة والأداء التمثيلى للمشاهد مع مهارتهم الكبرى بالغناء، وبالتالى بعد أن قرأت قصة العمل لن تتكلف مشقة متابعة وقراءة الترجمة للحوار المصاحب للعرض، ستكتفى بمتابعة هذا الجيش الكبير من الفنانين المحترفين للاستمتاع بأدائهم الصوتى والتمثيلى البديع لأوبرا «ريجوليتو»،  وكان لكل من البطل الباريتون مصطفى محمد فى دور ريجوليتو والسوبرانو سلمى الجبالى فى دور جيلدا ابنته، بصمة كبرى بأدائهما فى هذا العمل الاستثنائى، خطفا الأنظار والأذهان بأدائهما الغنائى والتمثيلى، تلاشت معهما حدود صعوبة تذوق واستيعاب الفن الأوبرالى اندمج الجمهور وانسحب معهما فى متعة خالصة بالتمثيل والغناء، من هنا تشق سلمى طريقها لتلحق بمن سابقها للعالمية فى هذا المجال، مطربة تمتلك من الحساسية الفنية وعذوبة وقوة الصوت مع حرصها على الأداء الحركى والتمثيلى ما يؤهلها إلى وضعها فى قائمة مطربى الأوبرا الأوائل، مطربة راسخة مكتملة البنيان الفنى، تساوى معهما الجميع فى نفس قوة الصوت ودقة وعمق الأداء، اصطف الأبطال معا لإبداع هذا العمل الكبير منهم عمرو مدحت، أمينة خيرت، أحمد الشيمى، رضا الوكيل، تامر توفيق، ليلى إبراهيم، رامز لباد، ميجانو سمير، إيمان زكريا، كل هؤلاء كانوا على قلب رجل واحد فى الجودة والإبهار، ولم يتوقف عنصر الإبهار عند حد الجهد المبذول فى الأداء الغنائى والتمثيلى على المسرح بينما انتقل وبشدة إلى عناصر العمل بشكل واضح مثل الملابس التى لعبت دورا كبيرا فى صناعة صورة مبهرة وكذلك الديكور للمهندس محمد الغرباوى الذى انتقل بنا مع الأبطال إلى عالمهم الخيالى فى مشاهد العرض المتفرقة والإضاءة للمهندس ياسر شعلان التى صنع بها صورة جلية صافية اكتملت بها روعة العمل وبهائه، ومهندس الصوت محمود عبد اللطيف، صممت الملابس هالة حسن والمكياج أحمد فكرى.

كتب فيردى أوبرا «ريجوليتو» عام 1851 وهذا هو العمل الضخم الذى قدم بديلا لأوبرا عايدة فى افتتاح دار الأوبرا الخديوية عام 1869، حيث كان من المنتظر تقديم «عايدة» فى الافتتاح لولا تأخر وصول الأزياء والمناظر المسرحية من فرنسا بسبب حربها مع بروسيا فى نفس التوقيت، وكانت قد حققت أوبرا ريجوليتو نجاحا كبيرا فى عرضها الأول على مسرح فيتشى بفينيسيا عام 1851 كان لموسيقى فيردى تأثير السحر على الجماهير جعلتهم يتقبلون الشخصية البغيضة لريجوليتو الأحدب بل يتعاطفون معها، استمر نجاح هذه الأوبرا حتى يومنا هذا فلا يخلو ريبرتوار أى فرقة بالعالم منها، كما تمثل أوبرات فيردى الثمانية والعشرون ركيزة أساسية فى الريبرتوار العالمى، كان يميل فيردى لمعالجة مواضيع إنسانية مأساوية أو تاريخية سياسية بشكل مباشر وواضح تمتزج فيه اللحظات المرحة مع التراجيديا وينتهى فى كثير من أوبراته بموت البطل أو البطلة فى ختام مأساوى حزين من أشهر أوبراته «ريجوليتو» 1851، «لاترافياتا 1853»، «الحفل التنكرى» 1859، «عايدة»1871، واختتم حياته بتقديم أوبرا «عطيل» 1887 المأخوذة عن شكسبير، و«فالستاف» 1893.