الجمعة 19 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

أجساد ناطقة بكفاح المرأة على مر العصور

حتشبسوت

 كانت وستظل المخرجة والمصممة كريمة بدير الأكثر وعيا ورسما لأبعاد فكرتها الدرامية بأجساد راقصيها، تنحت كريمة تركيبات وتكوينات حركية متنوعة تهيئ المتلقى للدخول فى عالمها الأنثوى الخاص، تطرح أفكارها متحررة من قيد حركة الباليه المحدودة، وتذهب بالرقص المعاصر لعالم أرحب وأوسع، تحيى فيه الدراما أجساد الراقصين بتصميم مفردات حركية تلتحم تفصيليا مع الفكرة المقترحة بالعمل الراقص.



 قدمت بدير مع المؤلف محمد زناتى طرحا فنيا رفيعا بعرض «حتشبسوت» الذى تتناول فيه قضية الأنثى بشكل عام وكأن حتشبسوت ليست مجرد امرأة من الماضى واجهت الرفض والعنف بينما هى امرأة حاضرة فى كل وقت وحين، هى سيدة الماضى والحاضر والمستقبل، المرأة المطالبة دائما ببذل المزيد من الجهد والصبر على المكاره لإثبات الذات حتى تثبت جدارتها لتولى المهام الصعبة، كتب المؤلف محمد زناتى نصا دراميا لعمل فنى راقص، وهى التجربة الأصعب والأشق التى يخوضها المؤلف مع فريق فرسان الشرق، عادة تتطلب عروض الرقص صيغة أخرى لتوظيف وتعشيق الدراما داخلها فالأجساد هنا هى العنصر الأقوى من الكلمة، تنطق الأجساد ما تستره الكلمات من رسائل ضمنية يحملها النص وبالتالى يأتى الجسد ليحرر الكلمة من عقدة الألسنة الناطقة ويتولى قيادتها من بداية العرض وحتى نهايته، هذا الشكل والبناء الفنى المتخلل لأشعار وبعض الجمل الحوارية يتطلب وعيا كبيرا بنوعية العمل الفنى المختلف كليا عن المسرح الدرامى الذى يبنى قواعده بالأساس على الحوار بين الشخصيات، لكن هنا يتناغم حوار الكلمات مع حوار الأجساد المحلقة فى سماء مسرح الجمهورية، انطلق زناتى ببنائه الدرامى وتقطيعاته الحوارية الموضوعة فى أماكن متفرقة بحرص وعناية ومهارة فائقة وظفها بحرفة عالية بحيث لا يمكن أن ينزعج المشاهد من تلك التقطيعات الحوارية سواء لدى السيدة العجوز الجالسة على الرحايا والتى لعبت دور الراوى للحكاية، وكأن العرض والقصة يسيران فى دائرة مغلقة بين الرحايا التى تتحرك فى حركة دائرية متكررة نفس القصص والأحداث التى تعيد نفسها بمرور الأزمنة بأشكال مختلفة تتواءم مع العصر الذى ولدت فيه، وظفت كريمة مشاهدها مع المؤلف بعناية كبيرة لا يشعر الجمهور معها بالانفصال عن متعة الرقص أثناء سرد الحوار الشعرى الذى جاء بديعا على لسان البطلة رجوى حامد التى قادت العرض بأدائها التمثيلى المتقن وكأن التمثيل هو حرفتها الأولى وليس الرقص، ثم سرد بعض الجمل الحوارية القصيرة على لسان البطلة «حتشبسوت» أثناء تقديمها اللوحات الراقصة.

 شبكة متصلة بين الرقص والحوار ..ولوحات أبدعتها المخرجة مع مصمم الديكور والأزياء أنيس إسماعيل الذى لعب دورا كبيرا بالإضافة لشخصية حتشبسوت ببصمته التعبيرية الواضحة على إبراز الدراما بعناصر السينوغرافيا من أزياء وديكور بدا وعيه الكبير بتفاصيل التكوين النفسى والفكرى والنشاط السياسى الذى قامت به هذه السيدة فى عصرها الفرعونى ثم اللمسة الجمالية التى حرص عليها باختيار الألوان بلوحات العرض المتفرقة خاصة لوحة افريقيا فى زيارة حتشبسوت لبلاد «بونت» الصومال ولوحة البدو، وحالة البناء التى اكتملت بتوليها العهد، هبطت تلك السقالات غير المكتملة والتى شكلت فراغا قبل توليها الحكم وكأن المكان لم يزدهر وتكتمل أركانه سوى بفعل هذه المرأة، اتحدت هذه العناصر مع الإضاءة للمصمم رضا إبراهيم لعبوا معا فى وحدة واحدة، فخرج العرض متشابك بأيدى صناعه لا ينفر عنصر من الآخر أو يشكل نشازا بالعمل الفنى الذى بدا مثل لوحات الفن التشكيلى وكأنها تجسدت بأجساد حية متحركة على خشبة المسرح.

  تلعب كريمة دائما بحرية تامة لتروى بالجسد ما عجز أن يرويه اللسان، يبدأ العرض بجملة على لسان الراوى «تدور الرحايا والحكاية ما بتنتهيش»..ثم تستعرض برقصة ثنائية حتشبسوت وهى جثة هامدة مع حبيبها المهندس «سننموت» الذى بنى لها معبدها بالدير البحرى وحفر نفقا بين مقبرتها ومقبرته ليكون قريبا منها فى الحياة الأخرى، سمحت له ببناء مقبرته فى حرم معبدها ليجاورها فى مماته وفى رقصة هذا النفق كأنهما التقيا بالعالم الآخر يسعى حبيبها لإحياء جسدها من جديد، تحيا حتشبسوت وتبدأ فى خوض معركتها مع الكهنة والعقول المتحجرة الرافضة لتوليها الحكم لكونها إمرأة، تتحدى الجميع وتتقن العمل حتى تصل إلى ما تريد بالحيلة والذكاء والجد والاجتهاد، تستعرض بدير رحلة كفاحها بلوحات متنوعة ولعل أبرزها وأكثرها تعبيرا عن بناء هذه السيدة وازدهار عصرها بقوة إرادتها عندما وضعت لحية رجل لتمارس مهام الرجال فى جسد امرأة فى قوة الحكم وتعمير الأرض، تمردت حتشبسوت وتمردت المخرجة معها على تقاليد العروض الراقصة بدا الراقصون هنا مؤدون لأدوارهم بالحركة والأداء التمثيلى، استحضرت ياسمين سمير «حتشبسوت» روح التحدى بهذه الملكة العاشقة المكافحة أدت دورها برشاقة طائر محلق بأجنحته فى فضاء المسرح، وبأداء ممثلة متعايشة وجدانيا مع الشخصية وروح الفكرة. 

أبدعت سمير بأدائها الحركى المتنوع بين لوحات متتالية ومتفرقة، جهد كبير وحضور بالجسد والمعايشة الدرامية والوعى بالشخصية التى تؤديها بصمت وحياة، كما كان للغناء الفرعونى دور كبير بمشهد صعود حتشبسوت للعالم الآخر بعد وفاتها، تصعد روحها على أنشودة باللهجة المصرية القديمة قدمتها المطربة متزو سوبرانو منة الله بدير ساهمت بصوتها العذب فى معايشة الجمهور لهذه اللحظة الدقيقة التى توقف فيها الزمن برحيلها ثم عاد للدوران من جديد لدى سيدة الرحايا، كما ساهم الملحن أحمد الناصر فى إبداع موسيقى العرض بمشاهده المتفرقة التى كان لها أشد الوقع على آذان الجمهور متعة الاستماع والمتابعة للتعبير الحركى والمهارات البدنية للراقصين مع الإعداد الموسيقى الذى سار فى إيقاع متسق موحى بالانتقال من حال إلى حال، كانت تتنقل الموسيقى مع أجساد الراقصين متقلبة مع الأوضاع التى انقلبت فى رحلة حياة حتشبسوت»، عمل فنى رفيع امتزجت عناصره فى نسيج متماسك بالمشاهد الثنائية والجماعية لتحيى به كريمة الروح فى الرقص الحديث، شارك فى بطولة العرض فاطمة محسن، إبراهيم خالد، باسم مجدي، محمد هلال، حبيبة إبراهيم، محمد سالم، ياسر الليثى، مى رزيق، هانى حسن.