الخميس 18 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

«الخوف».. صراع الإنسانية فى معركة الأجساد بالرقص الحديث على مسرح الجمهورية

خلال زمن مبتور ضئيل ينتهى فى لمح البصر.. تقدم عروض فرق الرقص المعاصر أعمالا فنية شديدة الجودة والأهمية على مستوى الفكرة والصورة والإنتاج وبالطبع التصميم الحركي، لكن للأسف لم تمنح تلك الأعمال حظها من العرض الجماهيرى، يعرض كل فريق بالكاد يومين أو ثلاثة أيام لا أكثر، وتنتهى عروضه سواء فرقة الرقص المسرحى الحديث أو فرسان الشرق، تتكرر هذه الأزمة بشكل مبالغ فيه مع فرق الرقص المعاصر بدار الأوبرا، وذلك رغم المستوى الفنى الرفيع الذى تأتى عليه هذه الأعمال شديدة الجودة والخصوصية الفنية، بينما لم تحظ فى المقابل بالإقبال الجماهيرى المناسب بما تستحقه من مشاهدة واحتفاء، فأصبح الرقص المعاصر فن لم يكتمل جمهوره بسبب السرعة الخاطفة التى يبدو عليها إنتاج وتقديم هذه العروض مهما بلغت من حجم الثراء الفنى أو الحركي، لم يشفع شيئا لأى منهم فى الإستمرار حتى ولو حرص على تقديم عمل متجاوز الحد فى الصورة والإخراج مثل عرض «شهر زاد» الذى قدمه الفنان وليد عونى العام الماضى رغم الإنتاج الضخم الذى قدم عليه هذا العرض لم يستمر سوى يومين فقط على خشبة المسرح الكبير!..، وكأن دار الأوبرا تنتج هذه العروض كى تتخلص من عبء افتتاحها سريعا، فلا أحد يعلم السبب وراء توقف هذه الأعمال فجأة بعد يوم أو اثنين من عرضها وعدم الحرص فى الإبقاء عليها بما يليق بمستواها وحجم الإنتاج الذى قدمت به على خشبات مسارحها؟!!



وكالعادة قدم الأسبوع الماضى فى يومين متصلين، المخرج مناضل عنتر عرض «الخوف» على خشبة مسرح الجمهورية والذى يعيد به مناضل صياغة أفكاره ورؤيته الفنية بالرقص المعاصر، قدم نفسه فى ثياب جديدة خرج من عباءة الشكل التقليدى فى التصميم والأفكار المنمطة، وبدأ فى التعبير عن مكنون هواجسه الداخلية وأفكاره الذاتية التى تشغله حول الإنسان والوجود أطلقها حرة طليقة متحررة من اشكال الرقص التلقيدية فى نحت فنى جديد على أجساد راقصيه.

 «الخوف» يتناول فيه مناضل فكرة فلسفية ربما تذكرك بمسرحية «الجحيم هم الآخرون» لجان بول سارتر أو الجحيم لدانتى الجيرى، كلها تدور بين مجموعة من البشر شل الخوف حركتهم عن ممارسة الحياة بشكل إنسانى طبيعي، حبسوا جميعا فى مكان يبدو وكأنه عالم آخر يعيشون حالة من الاغتراب والعذاب فى اضطرارهم للتواجد معا فى منطقة مغلقة لا سبيل أو مجال للخلاص من هذا القيد وهذا المكان الذى يبدو سجنا لا يطاق بسبب استمرارهم وتواصلهم معا حتى توحش الجميع وأصبحوا فى حالة عراك مستمر بسبب وبدون سبب.

حالة فنية خاصة يقدمها مناضل بهذا العمل الفنى الذى حمل بدقة ملامح هواجسه الداخلية تجاه الآخر والشكل المأساوى الذى أصبحت عليه العلاقات الإنسانية، أفكار تبدو وجودية حول إنشغال الإنسان بذاته ومحاولة فرض السيطرة على من حوله، حتى ولو عن طريق وضع هؤلاء البشر فى حالة مستمرة من الرعب والخوف، فأصبح بث الخوف وسيلة لحماية أنفسنا من الآخر، اتحد الراقصون معا لتقديم هذه الحالة الفنية بالأداء الحركى والتمثيل، دون تكلف عناء النطق بالكلمات عبرت أجسادهم عن هذه الحالة الإنسانية الدقيقة التى تشكل صراعا وجدانيا كبيرا قد يكون من الصعب التعبير عنه فى هذه الصورة الفنية التى عجزت عن أدائها الكلمات وانطلقت  الأجساد متفرقة فى الإيحاء بها تتحرك على المسرح فى تشابك أحيانا وانفراد أحيانا أخرى أو فى حركات جماعية بدت عليها الهيسيريا والتوحش لتجسد معركة الإنسان مع الآخر، قدم مناضل مفردات حركية جديدة ومختلفة ربما كانت الأكثر تعبيرا وتضمينا لمضمون فكرته الفنية فى التكوينات الجماعية أو الثنائية، أوحى التحام وتشابك كل فرد مع الآخر بما تتضمنه حياة هذه الشخصيات من عنف وشراسة فى أشكال علاقاتهم المعقدة وغير السوية معا، انعكست عليهم حالة الألم والتخبط والعنف والخوف، أحسن مناضل استغلال المهارات الجسدية لفريق الرقص الحديث خرج الجميع فى أوضاع بدينة رشيقة طيعة لإتخاذ أشكال جسدية مختلفة توحى بما يتناسب مع الفكرة التى يطرحها العرض بالكامل أو المشهد الحالى.

انصرف كل فرد بمهارته فى الحركة والخفة ليرينا طبيعة هذه الحياة القاسية التى فرضت عليهم جميعا، اندمجوا وتعمقوا بأرواحهم واجسادهم فى الدخول إلى هذا العالم المعقد الذى فرضه عليهم المخرج والمصمم، معركة فنية مكتملة الأركان شديدة الجودة والاتقان، أقامها مناضل بالرقص المعاصر ليجسد بها صراع الإنسانية فى قالب مغاير للمعتاد والمألوف، سار الراقصون متناغمون معا فى إيقاع متسق ومتصل مع الموسيقى التى أعدها عنتر للتعبير عن ملامح فكرته الرئيسية وخواطره عن الإنسانية بعمله الفني، ولم يكتف بإبداع عمل راقص بينما أضفى على هذا الإبداع تصميم إضاءة شديد التعبير والتفصيل والإضافة لفكرة العرض كانت جزءاً لا يتجزأ من العمل الفني، عكس بها المصمم حالة الضباب والتشويش والوضع الغير متزن الذى يعيشه هؤلاء البشر، وكذلك الديكور السجن المجازى والسلاسل الحديدية القيد الذى يجمع هؤلاء فى بوتقة واحدة.

شكل الثنائى الأهم بالرقص المعاصر عمرو البطريق ورشا الوكيل حالة من التميز الدائم طوال العرض سواء بالأداء الحركى معا فى مشاهدهما الثنائية أو فى حالات تفرقهما بالمشاهد الفردية، وبعيدا عن اتقان رشا لحركتها الجسدية فهى دائمة التميز والاتقان فى عروضها المختلفة، لكنها التزمت هنا بحالة أخرى متجاوزة الرقص  بالأداء التمثيلى المعبر وجدانيا عن روح الشخصية التى تؤديها وهو ما يبدو جديدا فى مجال الرقص المعاصر إكتساب الراقص مهارات أخرى غير حركة الجسد وابداع التصميم الحركي، وكذلك عمرو البطريق الذى ما زال يبهرنا بأدائه المتجاوز دائما حدود الإتقان العادي، لعب عمرو هنا على استعراض مهاراته الجسدية بحسن استغلاله لعضلات جسمه وتقديم تكوينات وتشكيلات حركية مختلفة كما يتقن الحركة أتقن أيضا تطويع جسده لأداء مفردات تحمل توافق عصبى وعضلى فى السيطرة على وضع جسده بمشاهد محددة خاصة المشاهد التى أقامها بمفرده، لم يقل الجميع مهارة واتقان عن الثنائى الأشهر والأقدم بالفريق حيث شاركهم البطولة كل من أحمد محمد، محمد سمير، مينا ثابت، حبيبة سيد، كريم أسامة، يمنى مسعد، رحمة عصام، فرح خالد، محمد الجمل، شريف محمود، محمد علي، مرام حسني، روان صلاح، مريم أسامة، نرمين محمد، ملك سيف، منى ممدوح، ماريا ممدوح ديكور أحمد زايد، إضاءة عصام على حسن.