الثلاثاء 13 مايو 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

انقراض اللغات هل يدفع البشر إلى التحدث بلغة عالمية واحدة؟

اللغة هى جهاز التنفس الثقافى الأول لأى انتماء، هى أكبر أسطورة أبدعها البشر بحثاً عن العيش المشترك أو ضمن مجموعة اجتماعية معينة، العيش معاً بالحرب أو بالحب أو بالحلم أو بالتنافس. 



أعظم اللغات جميعها، بالنسبة إلى الفرد، هى تلك التى يحلم بها، لا تلك التى يصلى بها ولا تلك التى يخترع بها ما قد يطوع الطبيعة ويجعلها تحت تصرفه ولا حتى تلك التى يكتب بها. تظل لغة الحلم هى أعمق لغة لأنها توقظ فينا ما هو لا وعي، ما هو نائم أو منوم فينا، ما هو نحن، هى طريقنا إلى الأنا، هى البوابة إلى العالم الداخلى المعقد والمظلم فينا.

ولقد أوضح الزعيم الأفريقى الراحل نيلسون مانديلا هذا المفهوم بقوله: «لو تحدثت إلى شخص بلغة يفهمها، يدخل حديثك رأسه. لكن لو تكلمت إليه بلغته، يدخل حديثك قلبه». فالكلمات إذاً أحجار لبناء المشاعر الأساسية. وفى ثقافاتنا، صنع البشر بهذه الأحجار أساسات  المبانى والمعانى اللغوية على مدى آلاف السنين. ويتبدل التعبير اللغوى بتبدل بيئاته والتصورات الذهنية عند الأفراد الذين يتشاركون لغة محددة.

وحين نتأمل واقعنا اليوم نكتشف أن تواصل الشعوب وتمازج الحضارات (واحتكار اللغات الرسمية لوسائل التعليم والاعلام) لا تعمل لصالح اللغات الصغيرة. وفى المقابل تعمل هذه العوامل على ترسيخ اللغات الكبيرة وتساهم فى اثرائها ونشرها حول العالم (فرغم ان العالم لا يزال يزخر بـ 6000لغة الا ان 90% من سكان الارض يستعملون 11لغة كبيرة فقط.

لغات كثيرة باتت تختفى حالياً بوتيرة متسارعة تبعث على القلق. ووفق تقديرات الباحثين، فإن نصف سكان العالم يتحدثون 50 لغة من الـ7 آلاف لغة الموجودة فى العالم، والنصف الآخر يتحدث البقية، أى 6050 لغة. ومنذ سنوات، أصدرت منظمة اليونيسكو «أطلس لغات العالم» التى تواجه خطر الاندثار. والقاسم المشترك بين كثير من اللغات المهددة بالانقراض هو أنه ليس لها أبجدية مكتوبة، أى أنها لغات محكية.

تزاحم العربية التى يتحدث بها 420 مليون نسمة  فى حياتنا لهجاتها المحلية من جهة، واللغات الأجنبية من جهة أخرى، فوضع اللغة العربية فى سياق التعامل اليومى لدى متكلميها وضع قلق متراجع.

فاللغات الأجنبية أخذت وتأخذ موقع الصدارة فى تعليم الأجيال وتوظيفها. وبينما أصبحت اللغات الأجنبية لغة التدريس فى التعليم العالى فأخذت مكان العربية، فإنها صارت كذلك لغة التدريس فى التعليم الثانوى والابتدائى الخاص، أو على أقل تقدير أخذت مكان الصدارة فى التعليم على حساب العربية. وبذلك تترسخ اللغات الأجنبية فى أذهان الشباب، باعتبارها الوسيلة اللغوية الأولى للتعبير عن الذات والتعامل مع العالم من حولهم.

حتى فى المؤسسات التربوية التى تكون فيها لغة التدريس هى العربية، فإن مستوى كفاءة المعلمين والمدرسين، وخاصة الذين يدرّسون اللغة العربية أنفسهم، لا يكون فى العادة بمستوى مناسب فى تخصصهم. ومن جهة أخرى، يطغى على المنهاج التوجه نحو التلقين وليس التطبيق العملى للغة، وبذلك يكمل الطالب دراسته ومقدرته فى العربية متواضعة جدا، لا تناسب المرحلة التالية فى حياته من دراسة أو عمل.

لقد اختارت دول أميركا اللاتينية الإسبانية وهى لغة المستعمر لغة وطنية وحولتها إلى غنيمة حرب، فهذه الدول المستقلة اليوم، وهى تتعامل بلغة المستعمر لا يمثل ذلك نقصاً فى سيادتها، فالمكسيكى أو الفنزويلى أو الكولومبى وهو يتكلم الإسبانية ليس إسبانياً، والبرازيلى وهو يتكلم البرتغالية أو يكتب بها روائع الأدب ليس برتغالياً، والأميركى الشمالى فى الولايات المتحدة أو فى كندا وهو يتكلم الإنجليزية أو يكتب بها أو يخترع بها ليس إنجليزياً.

إن انقراض أى لغة يعنى خسارة ثقافية لا تعوض. بمعنى آخر، فناء عالم خاص بأكمله له تقاليده وثقافته وناسه، عالم كامل تطويه صفحات التاريخ من دون أثر يدل عليه.

نصف اللغات المندثرة لم تكن مكتوبة، فتعلَن وفاتها بوفاة آخر الأشخاص المتحدثين بها، واختفاؤها لا يترك قاموساً أو نصاً أو سجلاً لنبشها ومحاولة استعادتها، أى أن مصيرها الاختفاء.

وإذا كانت فى وسائل الإعلام المرئية والسمعية فسحة للعامية، لأن التواصل فيها شفاهى فى المقام الأول، فإن العامية بدأت تـُستخدم فى الصحافة المكتوبة والروايات والقصص القصيرة، إذ يكتب بعض الصحفيين وبعض الكتاب نصوصهم بها لسبب أو لآخر. وهذا ما يجعل العامية تتخذ الشكل المكتوب على نطاق واسع فى النشاط الاجتماعي، مما يجعل الشكل الكتابى لها يتخذ قواعد له، وبذلك تصبح لغة قائمة بذاتها.

وما حوّل عربية الأمس إلى عربية اليوم، هو ما سيحول عربية اليوم إلى عربية غريبة غدا. فإذا لم تندثر العربية الفصيحة لتحل محلها لهجاتها، مثلما ماتت اللغة اللاتينية وحلت محلها لهجاتها العامية التى صارت الآن لغات وطنية مثل الفرنسية والإيطالية والإسبانية، فإنها فى أقل تقدير ستتحول إلى لغة تختلف تماما عما نكتبه اليوم، مثلما تختلف عربية اليوم عما كانت عليه عربية الأمس.

فضعف التعليم والتدقيق اللغوى والإهمال عموما لمكانة اللغة وأهميتها، وما ينتج عن ذلك من استخدام للمفردات العامية والتراكيب المستوردة وركاكة الأسلوب والتهجئة الخاطئة، سيدفع إلى اندثار العربى.

فرغم ان انقراض اللغات البشرية «ظاهرة طبيعية» إلا أنها لم تحدث من قبل بالسرعة التى نشهدها هذه الايام؛ فهناك مثلاً لغة الكاريام فى ليتوانيا التى انخفض عدد المتحدثين بها إلى 50 شخصاً فقط، ولغة الباكا فى الجابون التى يتحدث بها 52شخصاً فقط، ولغة الكومانى فى جنوب افريقيا التى يتحدث بها 23شخصاً فقط…

وهناك ايضاً لغة المايا القديمة فى غواتيمالا التى يتحدثها 150شخصاً فقط، ولغة الناياوان فى سرواك (ماليزيا) يتحدثها 1200شخص، ولغة الاسترو الرومانية التى يتحدثها 2020شخصاً فقط. وهذه اللغات (التى كانت ذات يوم مزدهرة ويتحدث بها خلق كثير) مجرد انعكاس لمجتمعات وثقافات قاربت بدورها على الانقراض. فحسب تقديرات اليونسكو تحتاج اى لغة الى مائة الف نسمة على الاقل كى تستمر فى البقاء والاستمرار. وبسبب عوامل الهجرة وتدهور الاقتصاد وطغيان اللغات الرسمية - ناهيك عن تجاهل التعليم بلغات الاقليات الصغيرة - يقل بالتدريج عدد المتحدثين باللغات الصغيرة فى معظم الدول.. ويقدرأن ما انقرض من اللغات المحلية الصغيرة يفوق بأضعاف اضعاف المستعمل منها حالياً، فالغزو الاسبانى لامريكا الجنوبية قضى مثلاً على 370لغة محلية، وحين وصل الانجليز الى استراليا كانت هناك 250لغة اصلية اندثر منها 213حالياً. وفى الهند توجد 840لغة محلية اصيلة 30 منها فقط تستخدم فى المدارس ووسائل الاعلام. ولا يوجد مكان فى العالم يضم من اللغات كما فى غينيا الجديدة (حيث يتكلم السكان بـ 1060لغة مختلفة) غير ان معظمها سينقرض قبل عام.

وبحسب الإحصائيات الأخيرة، فإن بعض اللغات قد تنقرض حالاً خلال أيام. فعلى سبيل المثال، لغة (تاوشيرو(للسكان الأصليين فى بيرو لم يبقَ ينطق بها سوى شخص واحد. وكذلك لغة (كايخانا(، وهى لغة إحدى قبائل الأمازون فى البرازيل، ستنقرض هى الأخرى برحيل الشخصين الوحيدين اللذين يتحدثان بها.

ويستمر موت اللغات فى كل الأصقاع؛ كانت لغة (ليميرى) منتشرة فى جزيرة فانواتو بالجزء الجنوبى للمحيط الهادى، ولغة (تانيما) فى جزر سليمان بالمحيط الهادي، ولغة (أنجيريب)، ولغة ألبانتويد فى نيجيريا، ينطق بكل منها 4 أشخاص من كبار السن. ولغة (ليكى) يتحدثها 5 أشخاص فى إحدى جزر إندونيسيا. ولغة (أونغوتا) يتحدثها 6 أشخاص من قبيلة تعيش بقرية صغيرة على الضفة الغربية لنهر ويتو فى إثيوبيا. ولغة (دومي) يتحدثها 8 أشخاص فى إحدى المناطق الجبلية النائية بمنطقة خوتانغ فى نيبال.

إن علاقتنا باللغات، لغة الأم واللغات الأجنبية، يجب أن تتأسس على قاعدة الدفاع عن البعد الهوياتى، حين الحديث عن لغة الأم، اللغة الوطنية، وعلى قاعدة «المنفعة المتبادلة» حين يكون الأمر متعلقاً باللغات الأجنبية، مهما كانت العلاقة معها، فحين نتمكن من تحقيق هذه المعادلة فإننا نخلص المدرسة والمتمدرس من عقدة نفسية وسياسية، ونعيد التوازن اللغوى ونؤسس لجيل قوى فى طبيعة علاقته بلغة الأم وبلغة الآخر وبلغة التجارب التاريخية بكل ما فيها من محن.

يهتم الباحثون وعلماء بالحفاظ على تنوع العالم البيولوجى، ويشددون على إيلاء اهتمام أكبر بالحفاظ على اللغات المهددة بالانقراض، خاصة أن أحدث تقارير اليونيسكو أشارت إلى أن نصف اللغات التى يتحدثها عالم اليوم، والبالغ عددها 7 آلاف لغة، بات مهدداً بالانقراض. ويُرجح اختفاؤها خلال القرن الحالي. ويتحدث 80 فى المائة من سكان العالم 83 لغة، و20 فى المائة فقط يتبادلون لغات نادرة، يصل عددها إلى 3500 لغة. والمثير الذى حذر منه التقرير أن لغة واحدة تختفى كل أسبوعين تقريباً، بعد خروجها من نطاق الاستخدام.

• هل تنعكس مسيرة التاريخ ويعود البشر الى التحدث بلغة عالمية واحدة - كما كانوا زمن آدم عليه السلام!؟.. وان كان الجواب «نعم» فأى لغة ترشح يا ترى!؟