الخميس 28 مارس 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
احمد باشا

«تشارلى شابلن».. مشاهد منسية من حياة الكوميديان الأشهر فى تجربة متفردة بالقطاع الخاص

ليس سهلًا أن تحتبس الجمهور فى قاعة المسرح لمدة تتجاوز الساعتين ليشاهد رحلة حياة رجل من المشاهير حتى ولو كان محبوبًا ومفضلًا لديهم؛ أن تقدم على تجربة للتوثيق هذا ليس يسيرًا بعالم المسرح؛ التوثيق فى حد ذاته يحمل ما يدعو للملل وربما العزوف عن الاستمرار بالمشاهدة لمدة زمنية طويلة؛ خاصة إذا لم يحرص صانع العمل على تقديمه بحرفة فنية عالية؛ تقدم عروض السير الذاتية عادة فى إطار محدود أو مناسبات طارئة مثل افتتاح المهرجانات؛ أو الاحتفال بذكرى رحيل فنان ترك أثرًا فى مجال المسرح أو الدراما بشكل عام؛ ولم تتجاوز المدة الزمنية لهذه الأعمال سوى ساعة واحدة.



لكن أن يقرر مخرج ومنتج بمجال القطاع الخاص خوض هذه التجربة لرحلة «تشارلى شابلن» وهو ابن بيئة فنية أخرى وظروف سياسية واجتماعية وتاريخية غير مرتبطة بنسيج المجتمع المصري؛ إلا أنه ترك أثرًا عظيمًا وبصمة لا تمحى فى صناعة السينما والفن بشكل عام؛ لم يكتف هذا الرجل بالشهرة المحدودة, بينما تجاوزت عبقريته وشهرته حدود موطنه الأصلى ..انجلترا؛ والبلد الذى عاش فيه سنوات طوال لصنع مجده.. الولايات المتحدة الأمريكية؛ قدم العرض جانبًا مخفيًا من حياة «شابلن» الشخصية؛ فى عمل مسرحى اتخذ من الدراما التوثيقية سبيلًا لاستعراض الظروف المحيطة بصعوده؛ وتعتبر هذه جرأة فنية كبيرة تحسب للمنتج شركة «سى سينما»؛ والمخرج أحمد البوهى باتخاذ المغامرة والقرار دون وضع حسابات السوق التجارية بمجال القطاع الخاص؛ الذى يضع فى أولوياته المكسب والخسارة بقياس مدى قدرة العرض على تحقيق عنصر الجذب الجماهيري.

يتحدد عنصر الجذب الأول فى «تشارلى شابلن» من اسمه؛ ثم الأسلوب والنهج الذى انتهجه العرض فى تقديم سيرته الذاتية؛ سرد بالغناء والتوثيق والاستعراض مشاهد متتالية عن رحلة صعوده من الفقر والتشرد بشوارع لندن إلى أكبر وأشهر كوميديان بالعالم؛ لم يعتمد المخرج أحمد البوهى والمؤلف الدكتور مدحت العدل على بناء وكتابة دراما توثيقية بالشكل التقليدى المتعارف عليه؛ بينما جاء البناء العام  معتمدًا على تشبيك الأحداث بالموسيقى والاستعراض والمقاطع الغنائية المتفرقة التى استند عليها العمل كعنصر أساسي؛ لتقديم جانب آخر من حياة تشارلى الذى ربما لم نعلم عنه المزيد؛ بدءًا من رحلة صعوده وعلاقته بوالدته وأخيه سيدنى ونهاية بازدهار فنه والحرب التى خاضها مع الولايات المتحدة الأمريكية..ومكتب التحقيقات الفيدرالية «إف بى إي» للدفاع عن نفسه ضد الفضائح والشائعات التى روجت حوله والتى انتهت بطرده من أمريكا والهجرة إلى سويسرا مع عائلته حتى استدعته الولايات المتحدة لمنحه الأوسكار الفخرية عن مجمل أعماله الفنية عام 1972؛ ربما لم تحمل الكتابة العمق والقوة التى تضاهى شخصية بحجم شابلن, بينما أدت الغرض مما أراده الكاتب والمخرج.

رغم ما ذكرناه من تحد ومغامرة فى اتباع منهج التوثيق فى الأعمال الكبرى؛ إلا أن استدعاء شخصية مثل شابلن من السينما إلى عالم المسرح كان اختيارًا موفقًا شديد الدقة والذكاء؛ وذلك بسبب اعتماده الرئيسى على الجسد والشكل الكاريكاتيورى الهزلى الذى اتخذه فى أعماله لشخصية المتشرد, صنع لها هيئة جسدية وملامح مميزة الشنب؛ الطاقية؛ العصا والبذلة والحذاء.. جعل منها أشهر شخصية طافت العالم؛ ثم حركة جسده فى لعب الكوميديا والتى اعتمدت بشكل كبير على نمط لاعب السيرك فى السرعة والقفز والمرونة والخفة والنشاط وكذلك سهولة السقوط والنهوض فى لحظة واحدة بدا كإنسان آلى الحركة فى ممارسة فن الكوميديا والسخرية بجميع أعماله السينمائية, كل هذه الملامح الشخصية فى شابلن تجعله مادة ثرية للمسرح الذى يهتم بالأداء الحركى كعنصر أساسى وبصناعة أنماط من الكوميديا, ثم الأزياء المعبرة عن الملامح المميزة للشخصيات؛ وبالتالى كان من أكثر العناصر جذبًا للانتباه فى عرض «شابلن» التعبير الحركى والاستعراض؛ بذل عمرو البطريق جهدًا كبيرًا فى التصميم الحركى بمشاهد العرض من بدايته وحتى نهايته؛ احتوى العمل على مجموعة من الاستعراضات شديدة المعاصرة والابتكار والمحاكاة لشخصية شابلن سواء بالاستعراض الفردى أو الجماعي؛ كان العنصر الأساسى الحركى فيها مستوحى من شابلن فى حركته الدءوبة السريعة الخاطفة, اتخذ الراقصون أوضاعًا متنوعة فى تشكيل تكوينات حركية معقدة بأكثر من مشهد حتى مشاهد الاستعداد لبناء الاستديو, وفى بدء التصوير كان الجميع يحاكى شابلن نفسه وكأنهم تحولوا إلى نسخ متعددة منه؛ ثم استعراض السيرك ..«احنا ملوك الشوارع».. لعب الجميع بأداء حركى محاكى تمامًا للاعبى السيرك؛ خفة ونشاط وأداء على قلب رجل واحد رغم العدد الكبير للراقصين اتقن عمرو إدراتهم وتدريبهم على الانضباط والالتزام والعمل بروح واحدة, فكان من أكثر عناصر العمل قوة وإبهارًا؛ كتب به البطريق شهادة ميلاده كمصمم حركى له بصمة وفكر فى صناعة عمل موسيقى استعراضى ضخم خرج بالعرض من حيزه الضيق فى مجال سرد سيرة ذاتية إلى عالم أرحب وأقرب إلى عروض برودواي.

كما بنت الموسيقى المعنى من وراء تقديم هذا العمل؛ معنى الشخصية وما كانت تحرص على تقديمه فى الواقع من ممارسة للفن بشكل استثنائى فكانت الموسيقى استثنائية إلى حد كبير؛ جاء الملحن إيهاب عبد الواحد بروح الشخصية من خلال موسيقى تحمل خلفية حياة هذا الرجل فى رحلته الشخصية والسينمائية؛ موسيقى مستوحاة من عالمه السينمائى الثري؛ طغت روح السينما على العمل بالكامل؛ التحم الاستعراض بالموسيقى أو ربما اعتمد عليهما العرض بشكل أساسى فى تحقيق المتعة والمعنى من وراءه؛ ثم ساهم الديكور فى مشاهده المتنوعة للمهندس حازم شبل الذى لم يهتم بالضخامة بقدر اهتمامه بالمعنى من وراء هذا الديكور الذى شغل مساحة المسرح بالكامل يمينًا ويسارًا وارتفاعًا بتقسيم الخشبة إلى مستويات متعددة مستوى ثان وبؤرة دائرية فى العمق تمثل ذكريات شابلن وارتباطه بالماضى فى هذه البؤرة كان يعيش مع شبح والدته التى مثلت ملاكه الحارس طوال العرض؛ وكذلك شكلت ريم العدل بتصميم الأزياء حالة بصرية مميزة فى إضفاء المزيد من الروعة والبهاء على العرض الذى خرج فى صورة فنية شديدة الرقى والثراء؛ حيث اهتمت بأدق التفاصيل من ملابس الأطفال الصغار فى عالم الشارع ثم ملابس الراقصين فى مشاهد متعددة وملابس أبطال العمل؛ كل تلك العناصر الفنية متقنة الصنع والتى اتضح فيها الجهد المبذول من صناع العرض؛ ساهمت بشكل رئيسى فى منحه صفة «العمل الموسيقى الاستعراضى الضخم». 

البعض يعيش الحزن معه والبعض الآخر يعيش الحزن فيه, يمثل «تشارلى شابلن» النوع الأخير الذى عاش الحزن فيه؛ الرجل الذى خلق من الصمت حياة كان يقدر قيمة السكوت فى حكى ما يجول بخاطره حمل مأساة حياته داخله فى عمق نظرته للدنيا وسخريته الدائمة منها؛ ومن غرابة استمرارها بشكل اعتيادى رغم كل ما يحدث فيها من مظاهر مؤلمة مظلمة؛ حزن دفين يسكن عينيه, وغموض واضح حمل مسحة من الأسى تطفو على وجهه المرح؛ هذه الملامح الرئيسية لشخصية شابلن تجاهلها أو ربما غفل عنها بطل العرض محمد فهيم؛ الذى صب اهتمامه بشكل واضح وملفت على إتقان حركته الجسدية ببراعة منقطعة النظير؛ اهتم فهيم بالأداء والإعداد البدنى للشخصية؛ بينما لم يهتم كثيرًا بالإعداد النفسى لها, وبالتالى غابت روح تشارلى شابلن عن العرض بالكامل ستبحث عنه ولن تجده حاضرًا إلا بالجسد؛ فهل قراءة البطل نابعة من صياغة الدكتور مدحت العدل لملامح الشخصية أم هى قراءة ذاتية تخص الممثل وحده..!؛ بدا شابلن على يد فهيم حزينًا محبطًا وكئيبًا غابت عنه روحه المرحة وحضوره الآخاذ؛ تجنب صياغته فى صورة مسلية لطبيعته الحقيقية؛ كان من الأولى أن يلحظ الجمهور الحزن والغموض فى شخصيته دون البوح به؛ حقيقة شابلن بعيدة كل البعد عن الشكل الثابت الصارم العنيف الذى قدم عليه فهيم شخصيته فى طريقة استعلائه أحيانًا وصارمته الشديدة؛ فهذا الرجل تميز بقدرته على التلون الدائم وتقديم طبقات مختلفة من الأداء لذلك يبدو حبسه فى شكل من الأداء أحادى الاتجاه خطأ فى قراءة وتحديد ملامحه الشخصية؛ على النقيض كانت شخصية سيدنى أخوه الذى بدا مرحًا مبهجًا رغم كل الآلام التى مرا بها معًا, قدمها عماد بمهارته المعتادة بإتقانه للرقص والتمثيل والغناء؛ كان يحميه ويسبقه دائمًا فى حل الأزمات التى يتعرض لها أثناء عمله؛ كما تميزت وتفردت داليا الجندى فى أداء شخصية هيدا هوبر الصحفية المعادية لـ»شابلن» والتى ساهمت فى نشر فضائحه وطرده من أمريكا مع «ادجر هوفر» مؤسس مكتب التحقيقات الفيدرالية بأمريكا؛ اتقنت داليا فى هذا العمل بالأداء الحركى والتمثيل والغناء لتكتب اسمها بقوة فى عالم الاحتراف؛ ثم «ادجر هوفر» الذى دأب على ملاحقة شابلن حتى أخرجه من أمريكا؛ قدم شخصيته الدكتور أيمن الشيوى الذى مزج بين مهارة التمثيل والحركة والغناء بخفة واقتدار؛ ونور قدرى الذى جاء دورها كالطيف كانت تظهر بمقاطع متفرقة, اتقنت نور دور الأم ودور الطيف الخافت والملاك الحارس لـ»شابلن»؛ كما تميز الطفلان بأداء دوريهما فى مرحلة الطفولة مروان هشام سيدنى الصغير ومحمد فاروق تشارلي؛ ورغم ضعف الكتابة أحيانًا فى رسم ملامح شخصية شابلن التى تحمل المزيد من الأبعاد النفسية والعمق ربما كانت الأغانى أقوى وأمتع من كتابة الشخصيات نفسها على الورق إلا أن المخرج أحمد البوهى أتقن استغلال عناصر النجاح فى خوض تجربته بتقديم نوع آخر من المسرح ربما يعتمد بشكل رئيسى على الإجادة فى عناصر إبهاره الأشبه بعروض مسارح أوروبا وبرودواى أكثر من اعتماده على الكتابة الدرامية؛ وبالتالى يبقى «تشارلى شابلن» تجربة مسرحية متفردة بمجال القطاع الخاص فى مزجه النادر بين تحقيق المتعة مع التوثيق لسيرة ذاتية لمبدع كبير!