الخميس 18 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

حكايات نساء أعياهن الخوف والقلق على طاولة الحياة

بيت روز

حكايات نساء أعياهن الخوف والقلق تروى على طاولة «بيت روز» العرض المسرحى الذى افتتحه مسرح الطليعة مؤخرًا بقاعة صلاح عبد الصبور؛ يحمل العمل خصوصية وحساسية فنية على مستوى الموضوع المطروح والتناول سواء فى شكل التمثيل أو الإخراج الذى قدم عليه المخرج والمؤلف محمود جمال الحدينى قضية «بيت روز».



لم يقدم محمود جمال فى «بيت روز» نوعًا تقليديًا من الدراما المتعارف عليها التى تتمثل فى نسج صراع بين الشخصيات يتصاعد مع تطور الأحداث؛ بينما جاءت كل شخصية بصراعها من الخارج, صراعها الدائم المستمر مع الحياة دون انتظار لوقوع حدث ما؛ نسجت الدراما من واقع الحياة نفسه دون تحريف أو تأويل من المؤلف؛ وضع هذا الواقع قيد التصرف بين يدى المتفرج على طاولة الحكايات التى دارت فى مقهى بين أربع صديقات قررن التجمع واللقاء معًا فى يوم لتناول وجبة الغداء تدور وتلف معهن الحكايات فى حلقة مفرغة على طاولة ثابتة. 

غزل جمال حكايات لنماذج نابضة بالحياة عندما تتعمق فى قراءتها والسباحة معها ستجدها حاضرة فى نفسك ومن حولك؛ أفرغت هذه الشخصيات قصصها ومعاناتها النفسية معًا ومع أنفسهن على تلك الطاولة التى توزعت عليها الروايات مثل ورق اللعب بالكوتشينة وعليك أن تتأملها لتسحب منها الورقة الخاصة بك؛ دراما نفسية أبدعها المؤلف بدقة ونعومة تمس القلوب؛ تشبه فى صياغتها وأسلوب عرضها جلسات العلاج النفسى الجماعية فى حالة المصارحة والحكى والشجار أحيانًا بجانب الجمهور الذى جلس بينهن مستمعًا على طاولات المقهى وكأنه جزء لا يتجزأ من هذه الحالة؛ بدءًا من المرأة التقليدية التى تحيا حياة فرضت عليها مع زوجها ليس أمامها مخرج سوى التعايش معه والاستمرار رغم الألم والمعاناة من أجل الأبناء أو البحث عن الستر والخوف من الوحدة؛ الثانية مطلقة ثلاث مرات واجهت الكثير من المواجع التى جعلتها أقوى وأشد وأكثر جرأة وقوة فى مواجهة المجتمع والواقع؛ والثالثة خائفة من تدهور الحال والسن والوحدة تسعى للزواج حتى ولو بالطريقة التقليدية التى لا تقتنع بها لكنها جاءت لمشاورة صديقاتها ربما تجد من يقنعها حتى تخطو الخطوة وتذهب للقاء العريس المنتظر؛ تشجعها على هذا اللقاء الأولى التقليدية التى تبحث دائمًا عن كل المظاهر لإرضاء المجتمع حتى أنها حرصت على ارتداء الحجاب فى إشارة صريحة لشدة ما تتمسك به من عادات اجتماعية مظهرية لا تشغلها بواطن الأمور؛ ثم الرابعة الأكثر براءة وضعفًا التى تعيش مع والدتها وأيضًا لديها نفس مخاوف الوحدة من فوات قطار العمر.

أنماط نسائية من المجتمع اقتطفها المؤلف ونسج من كل نمط نموذجًا ليشتبك ويشتعل بينهن الجدل والصراع على اختلاف أفكار ومزاج كل منهن فى ممارسة حياتهن أو حتى شكل تعاملهن وتعايشهن مع مخاوفهن؛ فالمخاوف تبدو واحدة خاصة فى مجتمع يفرض على المرأة نمطًا محددًا من الحياة بناءً على التصنيف العمرى والجنسي؛ كانت سارة المفترض أنها الأقوى والأكثر تحريضًا على الجرأة فى مواجهة الخوف والمجتمع, حيث بدت الأكثر انطلاقًا من الأخريات, وبالتالى تتمركز عندها نقطة الصراع وفلسفة العرض, بينما رسم المؤلف شخصيتها بشيء من التأرجح بين الصدق والزيف؛ فقد توحى أحيانًا بأنها أقرب للزيف من الصدق فيما تدعو إليه؛ عندما ثارت وجن جنونها لمجرد شكوكها بأن إحداهن سجلت كلامها فى الجلسة وسوف تنشره على مواقع التواصل الاجتماعي؛ خشيت أن يرى الناس حقيقتها؛ ووضح هنا هشاشة وضعف الشخصية فى قدرتها على المواجهة والسيطرة على انفعالاتها تجاه شيء مرتبط بالاستعراض أمام الناس أكثر منه شيئا حقيقيا نابعا من داخلها؛ فى حين كانت تحتاج هذه الشخصية إلى إضفاء المزيد من الاتزان والصدق عليها خاصة وهى صاحبة فكر وفلسفة فى الدعوة للحرية والانطلاق والتحرر من قيود الخوف ونظرة المجتمع؛ اهتمامها الشديد بمواقع التواصل الاجتماعى وشهرتها ربما جعلها نموذجًا منفرًا لما تدعو إليه, لأن تلك الدعوة أساسها الاستعراض وكسب مزيد من المتابعين والمعجبين؛ فى المقابل وبرغم ما تبدو عليه صديقتها التقليدية من التعايش مع واقع مزيف أو أنها تعيش فى كذبة كبيرة تحاول إضفاء شيء من الصدق حولها إلا أنها كانت أكثر صدقًا فى إيمانها بالزيف, وبالتالى كان يحتاج العمل إلى ضبط قوة الصراع بين الشخصيتن أو ضبط وضوح الرؤية لملامح كل منهما حتى تكون الأكثر أثرًا صاحبة الدعوة للحرية وليس العكس!

ديكور ثابت على هيئة طاولة فى منتصف المسرح تثبت وتسكن معه حركة الحياة؛ وشاشة عرض فى جوانبه لفيلم «الباب المفتوح»؛ جمعت طاولة المطعم الصديقات فى حركة ساكنة جلسن فى جلسة دائرية وكأنهن فى قعدة سمر حقيقية أو نزهة داخل أحد الكافيهات؛ فرض الديكور والفكرة على الأبطال السكون والجلوس ساعة كاملة وهو ما يوحى بأن العرض خال من الحركة المسرحية؛ تجربة شديدة الحساسية والخصوصية.. تحتاج من الممثلين والمخرج حساسية أعلى بالإيقاع والأداء التمثيلى المكتف بين مقاعد هذه الطاولة؛ ورغم الشكل الجمالى الذى بدا عليه الديكور بدءًا من مدخل المسرح؛ إلا أنه أخفق فى ضبط زوايا الرؤية للجميع بحيث يتمكن الجمهور من رؤيتهن جميعًا فى وقت واحد؛ كان دائمًا هناك شخص يراه الجمهور من الخلف بسبب زاوية المقاعد حولهن التى أفقدت الجالسين رؤية وجه إحداهن على مدار زوايا المقاعد بالمسرح كاملة, كانت مهندسة الديكور هبة الكومى فى حاجة أكبر للبحث عن حلول لضبط زاويا الرؤية بحيث يظهر الجميع للجمهور حتى ولو عن طريق استغلال المرايات المثبتة فى جوانب المسرح.

من الصعب والشاق أن يجلس ممثل بمحازاة الجمهور ساعة كاملة فى سكون حركى تام إلا من بعض الإيماءات والحركات بالجسد واليد, وفى هذه الجلسة ترى مشاعر وأبعاد هذه الشخصيات التى يلعبها من الداخل والخارج فى آن واحد وهو مقيد فى جلسته على المقعد؛ يتطلب هذا الشكل مستوى رفيع من الموهبة وميزانًا حساسًا يزن به الفنان انفعالاته وحركته بدقة وتركيز؛ كانت سماح سليم على قدر المسئولية فى إدارة هذه الجلسة تمثيليًا تبعتها سالى سعيد؛ جلست أولى القادمات إلى المقهى الصديقة التقليدية سماح سليم فى دور سحر على رأس الطاولة التى بدأت فى قيادة الجلسة تمثيليًا ومسرحيًا كأنها المايسترو الذى يمنح إشارة البدء للعازفين؛ بخبرة ممثلة محترفة وبمهارة وتلقائية واقتدار, لعبت سماح شخصية الصديقة المتزوجة التى لا ترجو شيئًا سوى الحفاظ على زوجها وبيتها والتأقلم مع الحياة التى اضطرت أن تعيشها؛ تحمل هذه المرأة الكثير من الأبعاد النفسية والمشاعر الداخلية المتوترة والمتناقضة بين رغبتها فى التحرر المكبوتة فى أعماقها وبين ضرورة التخلى عن تلك الفكرة الهدامة من وجهة نظرها حتى لا تخسر كل شيء؛ تعارض صديقاتها المطلقة سارة سالى سعيد الشخصية المشهورة التى تحرض النساء على التحرر وممارسة حياتهن بجرأة وانطلاق تبدو سالى أكثر تحررًا وتمتعًا بالحياة من صديقتها, وهنا يزن المؤلف والمخرج دفة الصراع بينهما يشتعل الصراع والشجار فى الجدل والمناقشات حول الحياة بين الصديقتين على خلافهما الفكرى تجاه شكل تعامل كل منهما مع الرجل, أبدعت سالى مع سماح فى رسم حدود وملامح لهذه الشخصية التى جاءت تحمل أيضًا الكثير من المشاعر المختلطة والمتناقضة بين الجرأة والخوف والقوة والضعف؛ حتى ولو بدت جريئة منطلقة أكثر إقبالًا وتمتعًا بالحياة دون وضع حسابات المجتمع فى ذهنها, قدمت سالى شخصيتها بأداء متحرر منطلق من تقاليد المسرح وبدت أكثر تلقائية وطبيعية, عزفت مع سماح مقطوعة تمثيلية كان عنوانها “الانسياب والعفوية” ضبطتا الإثنان دفتى الصراع بالعرض بمهارة وقدرة على الإمساك وشد الإيقاع رغم صعوبة الوضع المسرحى الثابت الذى فرضته الفكرة عليهن؛ شاركتهما البطولة نادية حسن فى دور منار الفتاة المترددة فى لقاء العريس وهاجر حاتم نوران الأكثر براءة وضعفًا فى مواجهة مصاعب الحياة وعلى حداثة عهديهما بالمسرح أتقنت كل منهما دورها بتلقائية ونعومة استطاعتا الإلحاق بجموح سماح وسالى تمثيليا والاندماج معهما فخرجن جميعًا فى حالة من الانسجام والتشابك كما شاركتهن البطولة مريم عيد فى دور النادلة بالمطعم؛ فى «بيت روز» بدت الجلسة حقيقية حميمية أكثر منها تمثيلية؛ يطلعنا فيها جمال على مخاوف المرأة وتناقضاتها بسلاسة ونعومة بحساسية فنية أقرب للسينما من المسرح.