السبت 20 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

«ابقى افتكرنى».. نموذج جديد فى فن التصميم والتحريك لمسرح العرائس

بدأت أمس الخميس فعاليات برنامج «هل هلالك» الرمضانية بالأوبريت الأشهر «الليلة الكبيرة» فى ساحة مسرح الهناجر، الذى يثبت فى كل عام مدى عشق وارتباط الجمهور بهذا العمل جملة وتفصيلا سواء بعرائسه الماريونت تصميم الراحل ناجى شاكر وإخراج صلاح السقا أو بالموسيقى والأغانى صلاح جاهين وسيد مكاوى التى يحفظها الجميع عن ظهر قلب، يعاد العمل فى كل عام وتتكرر معه نفس حالة الإقبال الجماهيرى بنفس المحبة والشغف، وكأنهم يحضرونه للمرة الأولى، ترك هذا العمل بكل عناصره الفنية المميزة أثرا فنيا ووجدانيا كالنقش على الحجر، أصبح عابرا للزمن لا يفنى ولا يزول ولا يتلاشى حب مريديه بمرور السنين كما لا تتغير قدرته على ابهار الأطفال على مر الأجيال، بقيت عرائسه حية لا تموت مجموعة من الأخشاب والتشكيلات المتحركة استطاعت أن تحظى بهذا القدر من التقدير منذ عام 1959.



من تراث «الليلة الكبيرة» الذى ما زال يحيا بيننا بنفس قوة انطلاقه وكأنه يفتتح لأول مرة، ننتقل إلى وجه آخر من فن صناعة وتصميم العرائس، حيث اتخذت العرائس منحى آخر فى الشكل والتصميم وكذلك التحريك على يد المخرج والمصمم محمد فوزي، قدم فوزى مؤخرا تجربة استثنائية فى فن تصنيع العروسة والتى اتخذت مسارا مغايرا لمسار العروسة الخشب ربما لم نعتده فى مصر من قبل، طرح المخرج تصميماته من خلال ورشة فنية عقدها العام الماضى بمسرح الهناجر للفنون، تعلم فيها الشباب على يديه طرقا وأساليب جديدة فى صناعة العرائس البشرية، وذلك عن طريق استخدام مواد بسيطة غير مكلفة، جهد كبير بذله فوزى حتى يخرج بهذا النتاج الفنى المتميز النادر، قد ينقل فن صناعة العرائس فى مصر إلى منطقة أخرى ليحدث حالة من التنوع مع العرائس الخشب المارينوت.

كان نتاج هذه الورشة العرض المسرحى «ابقى افتكرنى» الذى يعد تجربة استثنائية فى مسرح العرائس من حيث فن صناعة العروسة أو فنون تحريكها، اعتمد تكنيك التحريك والصناعة بالأساس على العرائس المحمولة المصنوعة فى هيئة بشرية وكأنها إنسان ينقصه بث الدماء والروح، خلق جديد نشأ بأنامل مجموعة من الشباب الموهوبين بصبر ومثابرة وعمل دؤوب عكف شباب الورشة على صناعة تفاصيل أقنعة وعرائس بأشكال وأنواع مختلفة تفاصيل وجه وملامح جسدية، اكتشف المخرج محمد فوزى خلال هذه الورشة مجموعة من المواهب الواعدة فى فنون التصميم والتحريك، صنعوا عرائس كاملة أو نصف كاملة الهيئة، تتحول بين يد محركها إلى كائن حى.. سبق وأن أشار.. «بدأت الورشة عندما كان لدىَّ تصور للعمل على فكرة العرائس المحمولة، عروسة محمولة كبيرة لها أبعاد خارجية حركتها توازى حركة الممثل فى هيئته الجسدية حسب الدراما المكتوبة».

كتبت المؤلفة رشا عبد المنعم صياغة وإعدادا دراميا عن حالات متنوعة لكبار السن يعانون من الإصابة بمرض الزهايمر جميعهم يعيشون فى دار رعاية لكل منهم قصة ورواية، يبدأ العرض بعم ناجى الرجل العجوز الذى قرر أن يكتب مذاكراته حتى لا ينسى يكتب مذكرات مشوشة، وكذلك شخصيات العرض التى تجمعهم علاقات مشوشة أو غير حقيقية، كل منهم ينسج من خياله حالة يعيشها مع الآخر حتى يستطيع أن يخلق لنفسه عالما افتراضيا بعيدا عن الواقع الذى نسيه الجميع وأصبحوا يعشيون واقعا افتراضيا من نسج الخيال أقاموا علاقات وتصورات وأحلام يقظة تمنوا لو تكون واقعهم الفعلى.

قدم المخرج محمد فوزى فى هذا العرض ثورة فى فن صناعة العرائس على مختلف المستويات يطرح أشكالا وأنماطا مختلفة، بداية من القناع مرورا بصناعة شكل حيوان من مواد أولية مثل الكلب الذى شارك عم ناجى وصحبه بالتمثيل، فى هذا العمل شكل آخر بفن التصميم والتحريك، عرائس تم تصميمها على هيئة بشرية تحاكى الجسد البشرى تشبه ملامحنا حركة أجسادنا، وبالتالى يتطلب هذا الشكل فى التصميم أسلوبا وميكانيزم معينا فى فن التحريك بالتعامل مع تلك العروسة الجديدة المناقضة للشكل التقليدى لعرائس المارينوت سواء فى تصميمها والمواد المستخدمة فى صناعتها، أو فى فن تحريكها فكل فرد بالعرض كان مطالبا أن يتم تدريبه على التعايش والمعايشة مع تلك العروسة التى يحركها وكأنها أصبحت جزءا لا يتجزأ من جسده فهو المعادل الواقعى لهذه العروسة الجامدة، هو روحها الناطقة ويدها المتحركة وانفعالاتها وحركة فمها وقدمها، الممثل والعروسة اتحدا معا فى كيان واحد واندمجا لتشاهد بالعرض عرائس نصفية يرتديها الممثل من نصفه الأعلى وأخرى كاملة يسير معها الممثل ويبث فيها الحياة بروحه ويده، صنع العرض حالة فنية خاصة جدا بساحة مسرح الهناجر بالإضاءة الخافتة وقطع الديكور الموزعة بأركان المكان كل ركن يعبر منها عن قصة وحالة فنية محددة.

كما سبق وأن ذكرنا خضع الممثلون جميعا إلى ورشة عمل مكثفة لمدة عاما كاملا ليخرجوا بهذه النتيجة المذهلة التى جاء عليها فن تحريك العروسة، فى هذا العرض تفرد كل منهم فى تحريك وتمثيل حالة كل عروسة على حدة حتى تكاد أن تشعر بأنها كائن حى يتحرك ويتحدث أمامك وتنسى محركها، يختفى الممثل بملامحه وجسده رغم حضوره، تكبر وتزدهر فى عينيك هذه العروسة ويتلاشى صاحبها أمامك برغم أنك تراه يحركها، هكذا وصل هؤلاء إلى درجة من الدقة والبراعة على حداثة عهدهم بهذا الفن الدقيق الصعب الذى يحتاج إلى حساسية فنية عالية للغاية فى كل لفتة وإيماءة، استطاعوا جميعا كبارا وصغارا الوصول إلى حالة من التوحد التام مع العرائس السائرة بصحبة أيديهم وأصواتهم لدرجة تلاشى وجودهم فى حضورها، دقة واتقان وتفوق كبير حققه المخرج والمصمم محمد فوزى فى التدريب والتصميم لهذه العرائس التى تشكلت فى هيئات بشرية ليكتب بها شهادة ميلاد مشروع فنى يقدمه فى مصر للمرة الأولى فى فن التصميم والتحريك قد ينتقل بنا إلى فضاء أوسع وأرحب فى عالم مسرح العرائس، فتح به المجال لتقديم أعمال فنية متنوعة تخرجنا من تصور الشكل المحدود للعروسة إلى شكل آخر أكثر روعة وجاذبية ليفسح المجال لتقديم أعمال فنية ذات موضوعات درامية للأسرة دون الاقتصار على مخاطبة فئات عمرية بعينها.