السبت 27 يوليو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

«جوه الصندوق».. دراما نفسية فى قالب فنى ممتع بقصر الأمير طاز

 داخل كل منا منطقة سوداء مغلقة تحمل مسمى الصندوق الأسود تستقر داخله أوهامنا، مخاوفنا، أحلامنا.. ثم ذكرياتنا مع الإحباط والألم، أفكار ربما تتعلق بالأسى على الماضى واليأس من الحاضر والخوف من المستقبل، ومع كل هذه المشاعر السلبية تتولد مشاعر أخرى موازية إما الشعور بالبحث عن الذات وضرورة السعى فى سبيل التخلص من تلك الأفكار ومحاولة الوصول إلى نشوة الانتصار بالتفكير فى كيفية تحقيق الرغبات، وإما عدم الشعور بالقيمة الذاتية والتحقير من شأن أنفسنا ونبذ الواقع الذى لا نرى فيه ما يستحق عناء السعى ومشقة تحمل هذه الحياة.



بين جدران قصر الأمير طاز استغل المخرج إسلام إمام جماليات هذا المكان الأثرى العريق الذى ناسب فكرته بمساحته وتقسيماته بمعماره البديع المتلاحم مع فكرة العرض، فى حلقة دائرية احتوت على مجموعة من النخيل والأقرب إلى اعتبارها منطقة مرتفعة عن الأرض قدم عرض «جوه الصندوق» الذى سترى وتستشعر فيه تلك المشاعر المختلطة بين اليأس من الوصول للحلم، والتأسف على مجد مضى والخوف من مستقبل آت، قصص متفرقة لمجموعة من الشباب جمعتهم رغبة واحدة السعى للتخلص من هذه الحياة مع اختلاف الأزمات النفسية أو ما يحمله كل منهم فى صندوقه الأعمق داخله، لكل شخص قصة دفعته لإتخاذ قرار الانتحار.. يبدأ العرض بشاب وفتاة يلتقيان بالمصادفة فى نفس المكان ساعين إلى نفس الرغبة.. الفتاة معذبة من عيب خلقت به تتعرض بسببه للإستغلال العاطفى والتنمر وربما الاحتقار من الآخرين فقدت الثقة بنفسها ومن حولها، بعد اليأس من العثور على قصة حب سوية تحيا فيها بسلام، ثم فجأة يكتشف الإثنان أن هناك المزيد من الناس يشاركونهما الرغبة فى الإنتحار يتشاجر الجميع على من يسبق الآخر بإلقاء نفسه من هذا المكان المرتفع، ثم يبدأ كل منهم فى حكى قصته حتى يؤكد على أحقيته بالسبق فى اتخاذ هذه الخطوة، تتفرق المشاكل والأزمات.. منهم من ظل مصرا على تمسكه بالإدمان حتى أصيب بسرطان الرئة وحذره الأطباء من احتمال الوفاة فقرر أن يعجل بأجله، وأخرى ابنة «بواب» حاولت أن تحقق حلم التعليم وتمنت لو تتمكن من ارتداء ملابس المدرسة والذهاب صباحا مثل أبناء سكان العمارة لكن أهلها رفضوا بشدة ثم قرروا استغلالها فى بيع المناديل والتسول، تتزوج لتلقى نفس المصير مع زوجها الذى يؤجر ابنهما بـ200 جنيه فى اليوم، وسيدة تستثمر فى تعليم ابنها بمدارس دولية لكنه يهجرها ويسافر للخارج ويتركها وحيدة، ثم أخرى تعمل سائقة أوبر لكنها لا تسلم من التحرش وسوء المعاملة والتقدير من الجميع رجالا ونساء حتى تتعرض لسرقة سيارتها التى لم تنته من دفع اقساطها بعد، وفتاة جامعية ممثلة ماهرة يطلب منها أن تعيش داخل عالم مزيف وتحقق أعلى أرقام من المتابعين لها على مواقع التواصل الاجتماعى حتى تستطيع اقتحام عالم الفن، ثم بطل الأوليمبياد الذى يصبح عاطلا عن العمل لا يجد قوت يومه بعد أن حقق بطولات دولية يسعى لبيع الميداليات لأن مستقبله أصبح مبهما وتوقف عند هذا الحد، ثم رجل الريف الذى يكره ابنه على السفر فى هجرة غير شرعية ليبحث لهم عن المال قبل بلوغ سن التجنيد لكنه يلقى حتفه يندم الأب ويلوم نفسه على اجباره على هذا الفعل!

 يقول آلبير كامو فى كتابه الإنسان المتمرد.. «أن كل قيمة لا تولد التمرد ولكن كل حركة تمرد تستدعى ضمنيا وجود قيمة فهل نحن على الأقل بصدد قيمة»..بالتأكيد الإنتحار حركة تمرد قاسية فى وجه الذات والمجتمع بشكل عام، يسعى فيها هذا المتمرد الناقم على قانون الحياة الظالم من وجهة نظره إلى اثبات أحقيته واستحقاقه بالحصول على شكل من الحياة أفضل مما هو عليه الآن وربما يستشعر قيمته من جرأته على الإقدام واتخاذ هذا القرار..!، بسلاسة وعذوبة شديدة قدم إسلام إمام دراما نفسية دون تعقيد، توغل بعمق فى نفس هؤلاء المقبلين بصدر رحب على انهاء الحياة بقرار حازم، بالجد مرة والهزل والسخرية من الواقع مرة أخرى صاغ ونسج إمام هذه الحركات المتمردة فى كل قصة على حدى، لم يكتب إمام ميلودراما فاقعة ولم يسع للتسول بقضايا هؤلاء المتألمين الضعفاء أمام مشقة الحياة وقسوتها، بينما كتب بحساسية الشعراء وفكر الفلاسفة وضمير الأطباء أو المعالجين النفسيين الباحثين عن خبايا ومفاتيح هذه النفوس المتمردة كيف يتم ترويضها ونسف هذا الدافع وتبديله بدوافع أخرى باحثة وباعثة فى أنفسهم عن الشعور بقيمة الوقت والحياة، دراما نفسية حملت لحظات مزجت الضحك بالألم، حقق بها المؤلف والمخرج متعة مسرحية صاحبها الأثر النفسى، يتأثر الحضور ويفكر ويتأمل يبكى ويضحك بذكاء وحكمة الانتقال بين المشاهد فى قفز محكم يشبه إيقاع الآلات الموسيقية المنضبط فى الانتقال من نغمة إلى أخرى بلحن واحد، لم يحاكم المؤلف الفكرة ولا أصحابها محاكمة فقهية ولم يسع للخطب والعبارات الرنانة المباشرة، بينما وضعهم فى مكاشفة فنية بإختبار مواطن القوة والضعف، قوة الإندفاع بإتخاذ القرار والضعف والجبن من الإقدام على التنفيذ خاصة عندما ينتبه أحدهم بمجرد الشوشرة عليه لحظة الاندفاع، بذكاء شديد وبصياغة درامية أقرب للتحليل النفسى والكشف الذاتى عن أعمق ما تخفيه النفس داخلها من حب الحياة وكراهية الموت فى مشهد فارق ومعبر للغاية عن هذا المعنى عندما يتهجم عليهم أحدهم حاملا سلاح بيديه ومهددا بأنه لن يسبقه أحد بإلقاء نفسه ومن سيفعل سيقتله، خشى الجميع على أنفسهم وتراجعوا لاهثين من الرعب برغم تواجدهم فى الأصل واجتماعهم على فكرة الانتحار والموت، وكأن مواجهة الفكرة وعنصر المفاجأة بها نبه العقل لاحتمالية وقوع الخطر بشكل حتمى فاستخدم الجميع آلية الدفاع عن نفسه والاحتفاظ بالحياة حتى ولو لدقائق معدودات.   هذا المشهد بقدر ما حمل من فكر وتأمل فى نفوس هؤلاء بقدر ما كان كاشفا لإرتداد المنتحر عن الفكرة بمجرد المواجهة والتفكير بها، ويتجلى هذا المعنى فى مشهد النهاية عندما باح كل منهم بأزمته وشعر بقيمته الذاتية وهو يحكى عن أحلامه ورغباته ويأسه وخوفه من المستقبل عندما فتح هذا الصندوق المغلق بالحوار والأنس بينهم توقفوا وخضعت الفكرة للمناقشة وواسى كل منهم الآخر على قدر حجم مصيبته ثم تراجعوا عن الفكرة بمجرد مناقشتها والاستماع دون التحقير من مأساة أحد، عندما استمع الجميع بحالة من التقدير والحب استرد كل منهم ثقته فى ذاته وأعاد التفكير فى كيفية معالجة أزمته  بدلا من اختيار النهاية المبكرة.

 عمل فنى شديد الصدق والتعبير عن الواقع دون افتعال أو مبالغة غزله إمام ليطرح فكرة يناقشها ويتأمل أبعادها النفسية وإمكانية إخضاعها لحل بحكمة وذكاء، قدم هذا العرض المسرحى الاستثنائى مع مجموعة كبيرة من الموهوبين الشباب الذى لا يقل أحدهم مهارة وقدرة على التجسيد بالدخول والخروج فى أكثر من شخصية بسلاسة وإبداع المحترفين كانت على رأسهم اسراء العسال التى ظهرت بأكثر من وجه ولعبت فى أكثر من شخصية بقوة واحتراف، وكذلك شاركها نفس القدر من المهارة والحضور كل من عالية القصبي، مصطفى سعيد، حامد الزناتى، دانا وائل، هنادى محمود، عبده بكرى، حسن على، إسلام رجب، أحمد عبادى، وكريم الكاشف، «جوه الصندوق» تجربة مسرحية ضمن المشروع الذى بدأ الدكتور هانى أبو الحسن رئيس صندوق التنمية الثقافية فى تنفيذه لإعادة إحياء المسرح بالأماكن الأثرية.